اعترض عليه الشيخ الإمام أبو المعالي ابن الجويني فقال:
المعول في الدليل على ما ذكرت من الخبر والنظر.
فأما الخبر فإنه يحتمل التأويل فإنه يجوز أن يكون المراد به أن الثيب أحق بنفسها لأنه لا يملك تزويجها إلا بالنطق والبكر بخلافها وإذا احتمل التأويل أولنا على ما ذكرت بطريق يوجب العلم وهو أنه قد اجتمع للبكر البالغة الأسباب التي تسقط معها ولاية الولي وتستقل بنفسها في التصرف في حق نفسها لأن المرأة إنما تفتقر إلى الولي لعدم استقلالها بنفسها لصغر أو جنون فإذا اجتمع فيها الأسباب التي تستغني بها عن ولاية الولي لم يجز ثبوت الولاية عليها في التزويج بغير إذنها.
ولأن في الخبر ما يدل على صحة هذا التأويل من وجهين:
أحدهما: أنه ذكر الولي وأطلق ولم يفصل بين الأب والجد وغيرهما من الأولياء ولو كان المراد ولاية الإجبار لم يطلق الولاية لأن غير الأب والجد لا يملك الإجبار بالإجماع فثبت أنه أراد به اعتبار النطق في حق الثيب وسقوطه في حق البكر.
ولأنه قال: والبكر تستأمر وإذنها صماتها فدل أنه أراد في الثيب اعتبار النطق
أجاب الشيخ الإمام أبو إسحاق فقال: لا يجوز حمله على ما ذكرت من اعتبار النطق لأنه صلى الله عليه وسلم قال الثيب أحق بنفسها وهذا يقتضي أنها أحق بنفسها في العقد والتصرف دون النطق.
وقوله إنه أطلق الولي فإنه عموم فأحمله على الأب والجد بدليل التعليل الذي ذكره في الثيب فإنه قال والثيب أحق بنفسها من وليها وذكر الصفة في الحكم تعليل والتعليل بمنزلة النص فيخص به العموم كما يخص بالقياس.
وقولك إنه ذكر الصمات في حق البكر فدل على إرادته النطق في حق الثيب لا يصح بل هو الحجة عليك لأنه لما ذكر البكر ذكر صفة إذنها وأنه الصمات فلو كان المراد به في الثيب النطق لما احتاج إلى إعادة الصمات في قوله والبكر تستأمر.
وأما قوله إن هاهنا دليلا يوجب القطع غير صحيح وإنما هو قياس على سائر الولايات والقياس يترك بالنص.
فقال الشيخ أبو المعالي:
لا يخلو إما أن تدعي أنه نص ودعواه لا تصح لأن النص ما لا يحتمل التأويل فإذا بطل أنه نص جاز التأويل بالدليل الذي ذكرت.
وأما قولك إني أحمل الولي على الأب والجد بدليل التعليل الذي ذكره في الخبر فليس بصحيح لأن ذكر الصفة في الحكم إنما يكون تعليلا إذا كان مناسبا للحكم الذي علق عليه كالسرقة في إيجاب القطع والثيوبة غير مناسبة للحكم الذي علق عليها وهي أنها أحق بنفسها فلا يجوز أن تكون علة ولأن ما ذكرت ليس بقياس وإنما هو طريق آخر فجاز أن يترك له التعليل.
أجاب الشيخ الإمام أبو إسحاق فقال:
أما التأويل فلا تصح دعواه لأن التأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله كقول الرجل رأيت حمارا وأراد به الرجل البليد فإن هذا مستعمل فجاز صرف الكلام إليه فأما ما لا يستعمل اللفظ فيه فلا يصح تأويل اللفظ عليه كما لو قال رأيت بغلا ثم قال أردت به رجلا بليدا لم يقبل لأن البغل لا يستعمل في الرجل بحال
فكذلك هاهنا.
قوله الأيم أحق بنفسها من وليها وقولك ليس بتعليل لأنه لا يناسب الحكم لا يصح لأن ذكر الصفة في الحكم تعليل في كلام العرب ألا ترى أنه إذا قال اقطعوا السارق كان معناه لسرقته وإذا قال جالس العلماء كان معناه لعلمهم
وقولك إنه إنما يجوز فيما يصلح أن يكون تعليلا للحكم الذي علق عليه كالسرقة في إيجاب القطع لا يصح لأن التعليل للحكم الذي علق عليه طريقه الشرع ولا ينكر في الشرع أن تجعل الثيوبة علة لإسقاط الولاية كما لا ينكر أن تجعل السرقة علة لإيجاب القطع والزنا للجلد.
وقولك هذا الذي ذكرت ليس بقياس خطأ بل جعلت استقلالها بهذه الصفات مغنيا عن الولاية ولا تصح هذه الدعوى إلا بالإسناد إلى الولايات الثابتة في الشرع
والولايات الثابتة في الشرع إنما زالت بهذه الصفات في الأصل فحملت ولاية النكاح عليها وذلك يحصل بالقياس ولو لم يكن هذا الأصل لما صح لك دعوى الاستقلال بهذه الصفات فإنه لا يسلم أن الولاية تثبت في حق المجنون والصغير بمقتضى العقل وإنما يثبت ذلك بالشرع والشرع ما ورد إلا في الأموال فكان حمل النكاح عليه قياسا والقياس لا يعارض النص وقد ثبت أن الخبر نص لا يحتمل التأويل فلا يجوز تركه بالقياس
ولأن هذا طريق يعارضه مثله وذلك أنه إذا كانت الأصول موضوعة على ثبوت الولاية للحاجة وسقوطها بالاستقلال بهذه الصفات فالأصول موضوعة على أن النطق لا يعتبر إلا في موضع لا يثبت فيه الولاية وقد ثبت أن النطق سقط في حق البكر فوجب أن تثبت الولاية عليها.
فقال الشيخ الإمام أبو المعالي النطق سقط نصا (في موطن آخر من الطبقات (ألنطق سقط أيضا) بدل نصا).
فقال الشيخ الإمام أبو إسحاق هذا تأكيد لأن سقوطه بالنص دليل على ما ذكرت وهذا آخر ما جرى بينهما والله أعلم. ا. هـ من طبقات السبكي.
ــــــــــــ
يتبع بمناظرة بين شيخ الحنفية في عصره (أبو عبد الله الدامغاني) وشيخ الشافعية في عصره (أبو إسحاق الشيرازي).
¥