الوجه الأول: أن هذا الكلام جعلوه مقابل ما ذكره كفار أمريكا من (الحرية العقدية)، فالحرية العقدية جعلت عند الكفار الأساس الرابع من أسسهم الخمسة، وعدم الإكراه في الدين جعلت الأساس الثالث في (بيان المثقفين) من أسسهم الثمانية، ومن الحرية العقدية عند الكفار (حرية تغيير الدين) وهو (الردة)، حيث في المادة الثامنة عشر من ميثاقهم لحقوق الإنسان: (لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة).
الوجه الثاني: أن الإكراه على الدين قد يراد به الإكراه على (الاعتقاد)، وقد يراد به الإكراه على (الالتزام بالحكم):
فقد دلت الآية نفسها على أن المراد بعدم الإكراه هنا هو (الإكراه على الاعتقاد)، وذلك بقرينة قوله تعالى بعد هذا (قد تبين الرشد من الغي)، وذلك إنما يدل على إرادة الاعتقاد، ويبقى الإكراه على الالتزام بحكم الإسلام قائماً لم يخصه دليل، لقوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) ونحوها من آيات القتال والجهاد.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى على هذه الآية:
" والدين في القرآن واللغة: يكون الشريعة، ويكون الحكم، ويكون الجزاء:
1 - فالجزاء في الآخرة: إلى الله تعالى لا إلينا.
2 - والشريعة: قد صح أن نقرهم على ما يعتقدون إذا كانوا أهل كتاب.
3 - فبقي الحكم: فوجب أن يكون كله حكم الله كما أمر".
وقال القرطبي رحمه الله:
"قوله تعالى (لا إكراه في الدين): الدين في هذه الآية: المعتقد والملة؛ بقرينة قوله (قد تبين الرشد من الغي) ".
فعلى هذا: فقولهم (إننا لا نكره شعباً على التخلي عن قيمه الخاصة)، و (لا نتدخل في خصوصيات الأقليات) غير صحيح، بل يلزمون بالامتثال لشريعة الإسلام فيما يتعلق بأحكام أهل الذمة كما مر.
على أن نفي الإكراه على الاعتقاد أيضاً لا يصح، وهذا هو:
الوجه الثالث: وهو أن إطلاقهم عدم الإكراه في الدين باطل، وذلك أن مسألة الإكراه في الدين على قسمين:
القسم الأول: الإكراه على الدخول في الإسلام:
القسم الثاني: الإكراه على التزام حكم الإسلام:
أما القسم الأول: وهو الإكراه على الدخول في الإسلام:
فينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم يكره فيه بالاتفاق، وقسم يكره فيه عند الجمهور، وقسم لا يكره فيه بالاتفاق:
أما الأول: فهو نوعان:
1 - المرتد عن الإسلام:
فإنه يقتل بالإجماع إذا ارتد، ووقع الخلاف في الاستتابة قبل القتل، وفيمن تقبل منه التوبة، إلا أن الإجماع وقع على عدم تركه.
ومن أشهر أعمال الصحابة رضي الله عنهم بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم حروب المرتدين، وهي الحروب التي عناها قوله تعالى - كما ذكر كثير من المفسرين - (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون)، فلم يذكر غير هذين الخيارين.
2 - المشرك العربي:
قال أبو عبيد رحمه الله:
" تتابعت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده في العرب من أهل الشرك أن من كان منهم ليس من أهل الكتاب فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل".
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله:
" أجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العرب، ولم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ".
وقال ابن حزم رحمه الله:
" لم يختلف مسلمان في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من الوثنيين من العرب إلا الإسلام أو السيف إلى أن مات عليه السلام فهو إكراه في الدين".
فهذا النوعان يكره فيهما بالاتفاق، ويدل عليه أدلة كثيرة منها:
قوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم).
وقوله تعالى (ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يسلمون) كما سبق.
والحديث المتفق عليه مرفوعاً (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... الحديث).
وما في البخاري أيضاً مرفوعاً (من بدل دينه فاقتلوه)، وغيرها من النصوص.
وأما الثاني: فهو الكافر من غير أهل الكتاب والمجوس:
¥