وقال ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (9/ 124): (وفيه دليل على أن الإمام يجب عليه أن يحول بين الرجال والنساء في التأمل والنظر،وفي معنى هذا منع النساء اللواتي لا يؤمن عليهن ومنهن الفتنة من الخروج والمشي في الحواضر والأسواق وحيث ينظرن إلى الرجال قال صلى الله عليه وسلم: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، وفي قول الله عز وجل: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم: ما
يكفي لمن تدبر كتاب الله ووفق للعمل به).
وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات المالكية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر المالكية الأخرى مثل:
مواهب الجليل، للحطاب (1/ 91)، الكفاية مع حاشية العدوي (2،225)، بلغة السالك، للصاوي (4/ 585)، وغيرها.
من المذهب الشافعي:
تكاد تكون أضخم موسوعة فقهية أنتجتها المدرسة الشافعية هي "الحاوي الكبير للماوردي"، وفي هذه الموسوعة يقول الماوردي رحمه الله: (والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال) (الحاوي الكبير، 2/ 51).
ولما تعرض الإمام النووي – ريحانة الشافعية - لظاهرة اختلاط النساء والرجال ليلة عرفة للدعاء والذكر أغلظ في تحريمها والتشنيع عليها، وذكر أن من علل تحريمها "اختلاط الجنسين" كما يقول رحمه الله في موسوعته "المجموع شرح المهذب": (ومن البدع القبيحة ما اعتاده بعض العوام في هذه الأزمان من إيقاد الشمع بجبل عرفة ليلة التاسع أو غيرها .. ، وهذه ضلالة فاحشة جمعوا فيها أنواعا من القبائح، منها: اختلاط النساء بالرجال، والشموع بينهم، ووجوههم بارزة، ويجب على ولي الأمر وكل مكلف تمكن من إزالة هذه البدع إنكارها) (المجموع، 8/ 140).
ومن المعروف أن المذهب الشافعي استقر على مافي كتاب المنهاج للنووي، وأجل شروحه عندهم هو شرح الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله، وإمامة ابن حجر الهيتمي للمذهب الشافعي لاجدال فيها، حتى أن الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله- لما ناظر بعض الشافعية في بعض مسائل الألوهية لفت انتباهه شدة تعظيم متأخري الشافعية لابن حجر الهيتمي (انظر مجموع الرسائل الشخصية للشيخ محمد) والمراد أن ابن حجر الهيتمي نص في هذا المصدر المركزي على تحريم اختلاط الجنسين فقال: (الاختلاط بالنساء مظنة الفساد) (تحفة المحتاج، 2/ 107).
بل إن الإمام ابن حجر الهيتمي لم يتحدث عن تحريم "اختلاط الجنسين" فقط، بل اعتنى بالتأكيد على أن تحريم اختلاط الجنسين هو مذهب متقدمي الشافعية أيضاً مستنداً على نصوص الإمام الشيرازي الشافعي صاحب المهذب، كما يقول ابن حجر الهيتمي في فتاواه: (وفي المهذب في باب صلاة الجمعة: "ولأنها،أي المرأة، لا تختلط بالرجال، وذلك لا يجوز" فتأمله تجده صريحا في حرمة الاختلاط، وهو كذلك لأنه مظنة الفتنة، وبه يتأيد ما مر عن بعض المتأخرين) (فتاوى ابن حجر الهيتمي، 1/ 203).
وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات الشافعية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر الشافعية الأخرى مثل: نهاية المحتاج للرملي (1/ 553)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 144)، حاشية الشبراملسي على النهاية (3/ 34)، فتوحات الوهاب للجمل (2/ 206)، تحفة الحبيب للبجيرمي (2/ 226)، وغيرها.
من المذهب الحنبلي:
أهم موسوعة فقهية مقارنة أنتجتها المدرسة الحنبلية هو بلاشك كتاب "المغني لابن قدامة" ويعرف كل من تابع تاريخ الفقه الإسلامي أنها تجاوزت الداخل المذهبي الحنبلي واكتسبت أهمية مرجعية عامة، حتى قال شيخ المقاصد العز بن عبدالسلام الشافعي عبارته الشهيرة "ماطابت نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة من المغني"، بل عدّهُ المتأخرون أحد الموسوعات الخمس التي تجمع علوم أهل الإسلام، وفي هذه الموسوعة الرصينة يقول الإمام ابن قدامة في تعليل وجوب انصراف النساء قبل الرجال: (فصلٌ: إذا كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن يثبت هو والرجال بقدر ما يرى أنهن قد انصرفن .. ، ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء) (المغني، 1/ 328).
وقال الإمام ابن قدامة أيضاً: (المرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال) (المغني، 2/ 88).
¥