وإذا كان المرجع إلى ربحية البنوك الإسلامية للمودعين فهي قليلة لا تدفع المدين المماطل إلى الأداء، بل يظل هكذا يحسب عليه هذه الفوائد المخفضة وهو يستفيد من الدين والسيولة في أمور أخرى، ولذلك كان رأي معظم المدراء التنفيذيين للبنوك الإسلامية أن غرامة التأخير لا تحقق الغرض المنشود ـ كما سبق ـ
وبهذه الردود على الشيخ ابن منيع يتضح لنا الجواب عما ذكره شيخنا الزر رحمه الله حيث بنى رأيه على قياس المدين المماطل على الغاصب للعين، وقد أوضحنا الفرق بينهما، فمنافع الأعيان المعدة للاستغلال المحققة مال عند جماهير الفقهاء، وأما قابلية الديون أو النقود المحتملة للزيادة فليست مالاً، ولذلك لا يجوز أخذ التعويض عنها، ولا اشتراط شرط في العقد بأخذ التعويض عنها، فبدأ الضمان المالي في الشريعة قائم على أساس المماثلة بين الفائت وعوضه، فالفائت ليس مالاً، وإنما مجرد احتمال في حين أن العوض مال، ولذلك قالوا: التعويضات جوابر.
يقو الدكتور نزيه حماد: (لما كان ظلم المدين المماطل غير قابل للاستدراك بطريق التعويضات الجوابر فقد سعت الشريعة الحكيمة لدرئه بواسطة العقوبات الزواجر، وهذا ما عناه الحديث الشريف: (ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) حيث فسر الفقهاء العقوبة بالحبس) [78] أو بنحوه من الحكم عليه بالحجر أو نحو ذلك.
ومن جانب آخر فلم ينقل إلينا حكم بالتعويض المالي بسبب تأخر المدين منذ عصر الخلافة الراشدة إلى نهاية الحكم العثماني، حيث لم تذكر كتب الفقه والقضاء مثل هذا الحكم حسب علمنا على الرغم من كثرة حالات المماطلة والتأخير، وكثرة الأحكام الصادرة بالتعزير، وبالحبس والحجر، وبيع أموال المدين [79] ونحو ذلك [80].
الرأي الثاني: القول بعدم جواز اشتراط التعويض في العقد:
وهذا رأي الدكتور زكي الدين شعبان، والدكتور نزيه حماد، والدكتور عبدالناصر العطار والدكتور شبير والاقتصادي الدكتور رفيق المصري [81]، ويمكن تلخيص أدلتهم فيما يلي:
إن اشتراط التعويض عن تأخير الدين إن هو إلاّ اشتراط لربا النسيئة، وهو غير جائز، وأن حصيلته هي الربا النسيء بعينه.
إن ذلك تحايل للوصول إلى الربا يقو الدكتور رفيق المصري بخصوص رأي الشيخ الزرقا: (إن هذه الاقتراحات أخشى أن تتخذ ذريعة في التطبيق العملي إلى الربا فتصبح الفائدة الممنوعة نظرياً تمارس عملياً باسم العقوبة (جزاء التأخير) وينتهي الفرق إلى فرق في الصور والتخريجات فحسب … وهي اقتراحات تحوم حول الحمى، وربما تؤول إلى الدخول من النوافذ بعد أن أقفل الباب حتى إذا كثرت النوافذ المشروعة رجاء بعضنا على الأقل إلى الدخول من الباب الرسمي) [82].
وهذا الذي خيف منه قد تحقق فعلاً فقد استطاع أحد البنوك ـ بعد تركي مراقباً شرعياً له ـ تحصيل الموافقة من الهيئة الشرعية على اشتراط التعويض عن التأخير، وعلى غرامة التأخير، فوافقت الهيئة على أن تصرف في وجوه الخير، ولكن الإدارة كانت ذكية فأخذت موافقة أخرى من الهيئة على اقتطاع جزء من هذه الغرامة في مقابل الإجراءات الإدارية، وحينئذ كلفت الإدارة أحد موظفيها باحتساب مقدار التكلفة الإدارية حيث بلغت قريباً من الغرامة المحصلة، وبالتالي دخلت في جيب البنك.
إن التعويض المالي عن التأخير في السداد مخالف لما جرى عليه العمل منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الدولة الإسلامية التي التزم قضاؤها بالإسلام، حيث كان القضاء يحكم على المدين الموسر المماطل الدين مع التعزير بالحبس، أو نحوه والإفلاس، ولم يسجل لنا الفقه الإسلامي أو القضاء الإسلامي حالة واحدة حاكم فيها القضاء الإسلامي بالتعويض عن التأخير في سداد الدين مع كثرة هذه الحالات المعروضة على القضاء كما لم نرً فتوى بهذا الصدد على الرغم من كثرة النوازل والوقائع التي تخص مماطلة الديون.
وقد ناقشو أدلة المجيزين، بأن الأحاديث المذكورة من اعتبار مطل الغني ظلماً يحل عرضه وعقوبته، لا تدل أبدأً على جواز التعويض عن تأخير الدين، ولم يفسر أحد من علماء الحديث أو الفقه هذه الأحاديث بالتعويض عن تأخير الدين ـ كما سبق ـ وكذلك الاستدلال بحديث: (لا ضرر ولا ضرار) في غير موقعه يدل على نفي الضرورة وإقراره، وأنه يجب أن يزال لا بضرر بمثله، ولكنه لا يدل على على أن كل ضرر يوجب الضمان والتعويض [83].
¥