إذن فقد اتضح مما تقدم أن مجال الاجتهاد المقبول الوحيد هو ما كان ظني الدلالة، فهذا من حيث المبدأ يجوز إعادة النظر فيه، وإخضاعه لمبدأ "تجديد الفقه"، ولكن من حيث الواقع والمصير، فإن إعادة النظر فيه قليلة الجدوى. ولماذا؟
لأننا من خلال تجربة عملية ودراسة نموذجية، وإن كانت قصيرة، لأحكام الفقه الاجتهادي عند السلف وجدناهم في كل مسألة اجتهادية استوعبوا فيها كل ما يمكن أن يقال، لذلك فإن من العسير على المجتهدين المعاصرين أن يجدوا منفذا يأتون فيه بجديد لم يقله الأقدمون.
فمثلاً قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" بعضهم فسر القرء بالطهر، وبعضهم فسره بالحيضة الواحدة .. فإذا أعدنا فيها النظر فما الذي سنقوله جديدا في المسألة؟!
ومثلا آخر، إذا طلقت المرأة من زوجها الغائب مع انقطاع أخباره، وحكم لها القضاء بالتطليق لرفع الضرر عنها ثم تزوجت بآخر، وبعد زواجها عاد زوجها القديم فهي زوجة لمن فيهما؟
بعضهم قال للأول ويفرق بينها وبين الثاني، وبعضهم قال للثاني ولا يُمَكّن منها الأول، وبعضهم قال هي للأول إلا إذا أنجبت من الثاني.
فإذا أعدنا النظر في هذه المسألة، فهل بقي لنا شيء جديد نقوله فيها؟
ومثلا آخر: إذا أكره رجل رجلاً آخر على قتل رجل ثالث فقتله، فعلى من يقع القصاص؟ على المكرِه الذي أمر بالقتل؟ أم على المكرَه الذي قام بالقتل؟
بعضهم قال: يقتص من الاثنين معاً: الآمر بالقتل والقاتل حتى وإن كان فاقد الإرادة، صونا للدماء، وبعضهم قال: يقتص من الآمر لأنه السبب ولا يقتص من القاتل لأنه مكره فاقد الإرادة، وبعضهم قال: لا قصاص على أحد منهما لأن الآمر بالقتل لم يباشر فعل القتل، ولأن القاتل مجبور لا إرادة له.
وبعضهم قال: يقتص من القاتل لأنه هو الذي باشر القتل، وعلى الآمر بالقتل دية الاثنين دية المقتول عدوانا وظلما، ودية المقتول قصاصا ..
هذه مسألة اجتهادية لم يرد حكم لها في الكتاب ولا في السنة، وقد استوعب الفقهاء فيها أقسام الحكم العقلي، فإذا أعدنا فيها النظر فما الذي تركوه لنا نقوله فيها يا ترى؟
وهكذا صنع الفقهاء الأقدمون في المسائل الاجتهادية كلها.
إذن فإن إخضاعها لمبدأ "تجديد الفقه" وإن كان ممكنًا نظريًا فإنه لا جدوى فيه عمليًا، والأحرى بالمنادين بتجديد الفقه القديم وإحلال فقه جديد محله، الأحرى بهم أن يرصدوا كل المستجدات وأن يبحثوا لها عن أحكام فقهية مناسبة، بدل أن يصبوا جام غضبهم على جهود علماء كبار أفذاذ ملؤوا الدنيا نوراً وهدى.