فإذا كانت الحادثة مما تعم به البلوى فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك للكافة وتعليمهم. وأنهم لم يتركوا نقله على وجه الاستفاضة، فحين لم يشتهر النقل عنهم عرفنا أنه سهو أو منسوخ، ألا ترى أن المتأخرين لما نقلوه اشتهر فيهم فلو كان ثابتاً في المتقدمين لاشتهر أيضاً وما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته) انتهى.
والجواب عن هذا الدليل بأن يقال ([165]): (إنما يجب ذلك لو لزم المكلفين العمل به على كل حال، فأما إذا لزمهم العمل بشرط أن يبلغهم الخبر فليس في ذلك تكليف ما لا طريق إليه، ولو وجب ما ذكروه فيما تعم به البلوى لوجب فيما لا تعم به البلوى أيضاً؛ لأنه وإن كانت البلوى لا تعم به لكنه يجوز وقوعه لكل واحد من آحاد الناس، فيجب في حكمه إشاعة حكمه خوفاً من أن لا يصل إلى من يُبتلى به فيضيع فرض عليه.
جواب آخر: أن الحكم وإن عم به البلوى، فليس هو بشيء وقعت واقعته في الحال لكلّ أحد في نفسه وذاته، بل غاية ما في الباب: توهم وقوعه. وإذا لم يكن إلا محض التوهم، فإذا وقع يمكن الوصول إلى موجب الحكم؛ لأن حكمه وإن نقله الواحد والاثنان فالتمكن من الوصول إليه موجود. فيكفي ذلك؛ لأنه إذا أمكنه الوصول فليس يضيع الحكم).
فالنبي r مبلغ عن الله وقد يبلغ الكافة وقد يبلغ العديد القليل وأحياناً الفرد والفردين، فقوله r : ( نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها) ([166]) و الحديث لم يشترط ما شرطه هؤلاء بل أطلق لكل من سمع مقالته أن يبلغها سواء كانوا جماعة أو أفرادا أو حتى فرداً واحداً أن يبلغ ما سمع فالواجب أنه متى ما صح عن رسول الله صلى الله من خبر وجب قبوله وعدم رده، وقد سبق بيان وجوب قبول خبر الواحد العدل فليرجع إليه.
وأما قولهم: (ولهذا لم تقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم يكن بالسماء علة.
ولم يقبل قول الوصي فيما يدعي من إنفاق مال عظيم على اليتيم في مدة يسيرة، وإن كان ذلك محتملاً؛ لأن الظاهر يكذبه في ذلك).
فيقال: هذا غير مسلم؛ لأنه قياس مع الفارق فكم من مواقف لرسول الله r بيَّن فيها بياناً عاماً ونقلت من طريق الآحاد كحجه وخطب الجمع ورجم ماعز وغير ذلك، ولهذا فإن المطلوب نقل حديث رسول الله r ، وقد يترك بعض الصحابة الرواية اكتفاءً بنقل غيره.
كما أنا لا نسلم عدم قبول شهادة العدل الواحد على رؤية هلال رمضان وإن شاركه غيره الرؤية ولم يروه.
قال ابن عباس ([167]): تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غداً فجاء أعرابي إلى النبي r فذكر أنه رآه، فقال النبي r : ( أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) قال نعم: فأمر النبي r بلالاً فنادى في الناس: صوموا، ثم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم صوموا ولا تصوموا قبله يوماً)
قال ابن القيم ([168]): (فأي فرق بين أن يشهد العدل الواحد على أمر رآه وعاينه يتعلق بمشهود له وعليه وبين أن يخبر بما رآه وعاينه مما يتعلق بالعموم وقد أجمع المسلمون على قبول أذان المؤذن الواحد وهو شهادة منه بدخول الوقت وخبر عنه يتعلق بالمخبر وغيره وكذلك أجمعوا على قبول فتوى المفتي الواحد وهي خبر عن حكم شرعي يعم المستفتي وغيره).
المسألة الثانية: في الآثار الفقهية المترتبة على القول بها.
لقد ترتب على القول بهذه القاعدة مسائل فقهية كثيرة أهمها ما يأتي: -
1 - الوضوء من مس الذكر:-
قال السرخسي: (وعلى هذا الأصل لم نعمل بحديث الوضوء من مس الذكر؛ لأن بسرة تفردت بروايته مع عموم الحاجة لهم إلى معرفته.
فالقول بأن النبي عليه السلام خصها بتعليم هذا الحكم مع أنها لا تحتاج إليه ولم يعلم سائر الصحابة مع شدة حاجتهم إليه شبه المحال).
أقول: قد سبق مناقشة هذه المسألة في القاعدة السابقة وهي مخالفة خبر الواحد للكتاب فلا حاجة للإعادة.
2 - الوضوء مما مسته النار:
أقول:ورد عن رسول الله r أنه قال كما في حديث زيد بن ثابت: (الوضوء مما مست النار).
وقوله عليه السلام كما في حديث أبي هريرة: (توضأوا مما مست النار).
وقوله عليه السلام كما في حديث عائشة: (توضأوا مما مست النار).
¥