قال وكيع: فما رأيت جواباً أحضر من جواب عبد الله لأبي حنيفة).
قلت: من المعلوم من الدين بالضرورة أن الاستهزاء بشيء من السنة الصحيحة الثابتة هو استهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبشرعه، والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بشرعه كفر مخرج من الملة.
فإن قيل بثبوت هذه السنة عند أبي حنيفة ومن ثَمَّ صدر عنه ما صدر فهذا كفر بالله ينزه عنه أبو حنيفة رحمه الله فلزم حينئذٍ القول بأن هذه السنة لم تثبت عنده، بدليل أنه كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، بما ظن صحته عن ابن مسعود رضي الله عنه من عدم الرفع في غير تكبيرة الإحرام، ولم يقل لابن المبارك ما قال له في الرفع عند الركوع والرفع منه لكونها سنة في نظره.
فالمسألة إذن ليست كما صورها السرخسي ومن قال بقوله من أنها من باب خبر الواحد إذا روى خبراً فيما يعم به البلوى لا يقبل، بل هي من قبيل عمل كل إمام بما بلغه من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
المطلب الرابع: في رد خبر الواحد لكونه حديثاً قد أعرض عنه الأئمة من الصدر الأول وهو ما لم تجر المحاجة بخبر الواحد بين الصحابة مع ظهور الاختلاف بينهم في الحكم
وفيه مسألتان:-
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بهذه القاعدة ([219]):
استدل القائلون بصحة هذه القاعدة: بأن الخبر الذي هذه صفته لا يقبل؛ لأنه زيف؛ ذلك أن الصحابة هم الأصول في نقل الدين و لا يتهمون بالكتمان ولا بترك الاحتجاج بما هو الحجة والاشتغال بما ليس بحجة.
فإذا ظهر منهم الاختلاف في الحكم وجرت المحاجة بينهم فيه بالرأي -والرأي ليس بحجة- مع ثبوت الخبر فلوكان الخبر صحيحاً لاحتج به بعضهم على بعض حتى يرتفع به الخلاف الثابت بينهم بناءً على الرأي فكان إعراض الكل عن الاحتجاج به دليلاً ظاهراً على أنه سهو ممن رواه بعدهم أو هو منسوخ.
وقد يعترض على هذا بأن يقال: لا يخلو حين اختلاف الصحابة في المسألة من أن يعلموا جميعاً أو يعلم بعضهم أن فيها دليلاً عن رسول الله r أو أن لا يعلموا بأجمعهم، فإن علموا بالدليل ومن ثم تركوه جميعاً قائلين بأنه لم يصح عن رسول صلى الله عليه وسلم فيها شيء؛ فإن ذلك والقول و الفعل إجماع منهم على عدم صحته وأنه مطعون فيه أو منسوخ وإجماعهم حجة، وإن علمه البعض دون البعض الآخر، فإن كان موافقاً لقولهم ولم يحتجوا به وقالوا عن الحديث بأنه لم يثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم فقد يقال: إنه لا يصح لاحتمال أنه إذا سمعه المخالف لهم قد يقر به عن الرسول عليه السلام ويرجع عن قوله. وإن كان مخالفاً لقولهم موافقاً لقول مخالفيهم فترك من علمه العمل به لا يدل على عدم صحته لما سبق، وإن لم يعلم به الجميع فلا يخلو من أن يكون مخالفاً لقول الجميع أو لا، فإن كان مخالفاً لقول الجميع فهذا دليل على أنه غير صحيح ثم هذا لا يتصور وقوعه لعصمة الله أمة محمد r من الاجتماع على ضلالة فإن وقع فهذا دليل على بطلانه، وإن كان الحديث موافقاً لأحد القولين، فهذا متصور وقوعه ومن ثم فالراجح من القولين ما وافق الحديث.
المسألة الثانية: الآثار الفقهية المترتبة على القول بهذه القاعدة:
لقد ترتب على القول بهذه القاعدة رد بعض الأحاديث الواردة في بعض المسائل الفقهية والتي منها ما يأتي: -
الحديث الأول: (الطلاق بالرجال والعدة بالنساء).
قال السرخسي ([220]): (فإن الكبار من الصحابة اختلفوا في هذا وأعرضوا عن الاحتجاج بهذا الحديث أصلاً فعرفنا أنه غير ثابت أو مؤول. والمراد به أن إيقاع الطلاق إلى الرجال).
قلت: روي هذا الحديث عن علي ([221]) وابن مسعود ([222]) وابن عباس ([223]) وزيد بن ثابت ([224]) بلفظ: (الطلاق بالرجال والعدة بالنساء).
وروي عن بعض التابعين منهم:سعيد بن المسيب ([225])، والشعبي ([226])، وعكرمة ([227])، وسليمان ابن يسار ([228]) نحوه.
وروي عن علي ([229]) وعبدالله ([230]) أنهما قالا: (الطلاق والعدة بالنساء). وبه قال اثنا عشر من أصحاب رسول الله r([231]) .
كما روي نحوه عن إبراهيم ([232]) والحسن ([233]) وغيرهما.
¥