وان كان قد يقال بل العلم بحصول العموم من صيغه ضرورى من اللغة والشرع والعرف والمنكرون له فرقة قليلة يجوز عليهم جحد الضروريات او سلب معرفتها كما جاز على من جحد العلم بموجب الاخبار المتواترة وغير ذلك من المعالم الضرورية
وأما من سلم أن العموم ثابت وانه حجة وقال هو ضعيف او اكثر العمومات مخصوصة وانه ما من عموم محفوظ الا كلمة او كلمات
فيقال له (أولا (هذا سؤال لا توجيه له فان هذا القدر الذى ذكرته لا يخلو اما أن يكون مانعا من الاستدلال بالعموم او لا يكون فان كان مانعا فهو مذهب منكرى العموم من الواقفة والمخصصة وهو مذهب سخيف لم ينتسب اليه وان لم يكن مانعا من الاستدلال فهذا كلام ضائع غايته ان يقال دلالة العموم اضعف من غيره من الظواهر وهذا لا يقر فانه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام
ثم يقال له (ثانيا (من الذى سلم لكم أن العموم المجرد الذى لم يظهر له مخصص دليل ضعيف ام من الذى سلم أن اكثر العمومات مخصوصة ام من الذى يقول ما من عموم الا قد خص الا قوله (بكل شىء عليم (فان هذا الكلام وان كان قد يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد فى كلام بعض المتكلمين فى اصول الفقه فانه من أكذب الكلام وأفسده
والظن بمن قاله (أولا (أنه انما عنى أن العموم من لفظ (كل شىء (مخصوص الا فى مواضع قليلة كما قوله (تدمر كل شىء (وأوتيت من كل شىء (فتحنا عليهم ابواب كل شىء (والا فأى عاقل يدعى هذا فى جميع صيغ العموم فى الكتاب والسنة وفى سائر كتب الله وكلام انبيائه وسائر كلام الامم عربهم وعجمهم
وأنت اذا قرأت القرآن من أوله الى آخره وجدت غالب عموماته محفوظة لا مخصوصة سواء عنيت عموم الجمع لافراده أو عموم الكل لاجزائه أو عموم الكل لاجزئياته فاذا اعتبرت قوله (الحمد لله رب العالمين (فهل تجد أحدا من العالمين ليس الله ربه (مالك يوم الدين (فهل فى يوم الدين شىء لا يملكه الله (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (فهل فى المغضوب عليهم ولا الضالين أحد لا يجتنب حاله التى كان بها مغضوبا عليه أو ضالا (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (الآية فهل فى هؤلاء المتقين أحد لم يهتد بهذا الكتاب (والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك (هل فيما أنزل الله ما لم يؤمن به المؤمنون لا عموما ولا خصوصا (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (هل خرج أحد من هؤلاء المتقين عن الهدى فى الدنيا وعن الفلاح فى الآخرة
ثم قوله (ان الذين كفروا (قيل هو عام مخصوص وقيل هو لتعريف العهد فلا تخصيص فيه فان التخصيص فرع على ثبوت عموم اللفظ ومن هنا يغلط كثير من الغالطين يعتقدون أن اللفظ عام ثم يعتقدون أنه قد خص منه ولو امعنوا النظر لعملوا من اول الامر ان الذى اخرجوه لم يكن اللفظ شاملا له ففرق بين شروط العموم وموانعه وبين شروط دخول المعنى فى ارادة المتكلم وموانعه
ثم قوله (لا يؤمنون (أليس هو عاما لمن عاد الضمير اليه عموما محفوظا (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم (أليس هو عاما فى القلوب وفى السمع وفى الابصار وفى المضاف اليه هذه الصفة عموما لم يدخله تخصيص وكذلك (ولهم (وكذلك فى سائر الايات اذا تأملته الى قوله (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم (فمن الذين خرجوا من هذا العموم الثانى فلم يخلقهم الله له وهذا باب واسع.
وان مشيت على آيات القرآن كما تلقن الصبيان وجدت الامر كذلك فانه سبحانه قال (قل أعوذ برب الناس ملك الناس اله الناس (فأى ناس ليس الله ربهم أم ليس ملكهم أم ليس الههم ثم قوله (من شر الوسواس الخناس (ان كان المسمى واحدا فلا عموم فيه وان كان جنسا فهو عام فأى وسواس خناس لا يستعاذ بالله منه
وكذلك قوله (برب الفلق (أى جزء من (الفلق (أم أى (فلق (ليس الله ربه (من شر ما خلق (أى شر من المخلوق لا يستعاذ منه (ومن شر النفاثات (اى نفاثة فى العقد لا يستعاذ منها وكذلك قوله (ومن شر حاسد (مع أن عموم هذا فيه بحيث دقيق ليس هذا موضعه
ثم (سورة الاخلاص (فيها اربع عمومات (لم يلد (فانه يعم جميع انواع الولادة وكذلك (لم يولد (وكذلك (ولم يكن له كفوا أحد (فانها تعم كل أحد وكل ما يدخل فى مسمى الكفؤ فهل فى شىء من هذا خصوص
ومن هذا الباب كلمة الاخلاص التى هى اشهر عند أهل الاسلام من كل كلام وهى كلمة (لا اله الا الله (فهل دخل هذا العموم خصوص قط
فالذى يقول بعد هذا ما من عام الا وقد خص الا كذا وكذا اما فى غاية الجهل واما فى غاية التقصير فى العبارة فان الذى أظنه انه انما عنى (من الكلمات التى تعم كل شىء (مع أن هذا الكلام ليس بمستقيم وان فسر بهذا لكنه اساء فى التعبير ايضا فان الكلمة العامة ليس معناها انها تعم كل شىء وانما المقصود ان تعم ما دلت عليه أى ما وضع اللفظ له وما من لفظ فى الغالب الا وهو اخص مما هو فوقه فى العموم واعم مما هو دونه فى العموم والجميع يكون عاما
ثم عامة العرب وسائر الامم انما هو اسماء عامة والعموم اللفظى على وزان العموم العقلى وهو خاصية (العقل (الذى هو أول درجات التمييز بين الانسان وبين البهائم ... ) نهاية كلام شيخ الإسلام رحمه الله في الرد على من قال بأن غالب عمومات الشرع مخصوصة و هو كلام كما يقال دسم فيه فوائد كثيرة جدا و تفصيل لمذاهب الناس في العموم و الرد عليهم و لو تكلم متكلم في شرح هذا الكلام لبلغ مجلدا كاملا من غير مبالغة.
¥