كذلك من مارس الحرب ـ لا سيما في عصرنا حيث انتفت الصورة المبسطة في القتل و النحر ـ يقدم قوله على غيره، و لهذا فقد آلمني كثيرا أن أرى المشايخ في العالم الإسلامي يجلسون في الغرف المكيفة ويرتدون أجمل الثياب و يأكلون أطيب الطعام ويذهب كل واحد منهم بعد سويعات عمله و إفتائه إلى زوجه و عياله ـ ثم تراه يحكم على الحرب و على المجاهدين بكونها هل هي حرب شرعية أم لا، و هل ما يحدث فيها يجوز شرعا أم لا، و هو بعد لم يلم بما يحدث فيها و لم يلم بما قد يجد من ملابسات يراها المحاربون و لا يراها غيرهم، و من هذا المؤسف أن أجد جمهور (العلماء) قد انتقدوا ما فعله (فعالة بن فاعل) و حكموا عليه بأنه إرهاب و أن الإسلام بريء من هذا الفعل، و لكم و الله شعرت بفقه الرجل حين تكلم على إحدى الفضائيات وقد وجه إليه كلام بما يذكره فيه علماء المملكة فقال ما معناه: إن العلماء أجلهم و أحترمهم و هم على رأسي إلا أنني أقول / لا يحكم على الشيء إلا من لابسه، فلا يحكمون على فعلي بأنه جائز أو غير جائز إلا إن
علموا ا ما نرى ونلابس، و أما أن يجلسوا في بيوتهم أو مجالسهم و يفتوا فيما يحدث معنا و منا فهذا لا ينبغي
إن مثل هذا الرجل ـ على الأقل ـ ممن يستعان به في فقه الجهاد وواقعه ـ لأن الله تعالى قد رزقه من سبل المعرفة في ذلك ما لم يرزق لغيره من كثير من أهل العلم والفضل ومسألة اعتبار التخصص هذه مشهورة و مسلم بها لدى متقدمينا فيما يظهر من حالهم و مقالهم
فكلنا يعلم تقدم أبي يوسف في القضاء لكونه ابتلي به، ويعلم تقدم محمد بن الحسن الشيباني في مسائل ذوي الأرحام
فهذا مما لا ينبغي الجدال فيه
و في النهاية أقول / من لوازم هذا التجديد وهذه الصياغة ألا يعتبر كتابا فقهيا معينا هو معتمد الفتوى بإطلاق، يظهر ذلك إذا علمنا أن تغير العرف و طروء تغير الحال يلزم منه تغير الفتوى، سواء كان لدوران الحكم مع العلة وجودا و عدما أو كان سدا للذرائع أو غير ذلك مما هو مبسوط في الأصول والفروع
و إنما قلت (بإطلاق) لأنه يمكن جعل كتاب معين هو معتمد الفتوى لدى مذهب معين غالبا أو نسبة إلى غيره من الكتب، كما هو الحال مع كتب المتقدمين التي نعتمدها نحن الآن للفتوى مع القطع بتغير بعض ما فيها ـ أيضا على أصول المذهب ـ مما ينبغي أن تكون الفتوى على خلاف ما هو مسطور
و الله تعالى الموفق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك أدين الله تعالى بعدم جدوى إنفاق الوقت في دراسة الحواشي والتقريرات التي وضعها الدارسون المذهبيون على الشروح تكلفا و تعمقا في فروع وتقريرات لا تنفع مثقال ذرة في تكوين الملكة الفقهية لدى الدارس، إنما هي تكلفات لغوية ونقل عن فلان وعلان مما قد يخرجك عن أصل المسألة المدروسة بالكلية، وتكون المصيبة لو كانت هذه الحاشية على شرح مختصر وضع للطلبة المبتدئين الذين لا تناسب هذه الحاشية أوقاتهم التي لابد من إنفاقها في إرساء وترسيخ أصول المسائل، فيضيع الطالب وقته في الحاشية و لا يخرج بشيء
بل حتى إذا أتم الكتاب فإنه يتمه مشتتا بسبب تقطعه في دراسته و تردده بينه وبين الحاشية ... و مثال ما ذكرت من الحواشي حاشية البيجوري على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع، وكلامي لا يشمل الحواشي الشهيرة التي كتب الله تعالى لها القبولو التي لا يربط بينها و بين النوع المذموم إلا مجرد الاسم كحاشية ابن عابدين الحنفية و حاشية ابن قاسم على الروض المربع الحنبلية
و هذه التدقيقات و التفريعات المتكلفة هي والله من أهم أسباب اندثار الاجتهاد المجمع على وجوبه في كل عصر
و قد نبه على ذلك الإمام السبكي رحمه الله تعالى في رسالته (معنى قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي) حيث قال ما معناه في معرض كلامه على أسباب ضياع الاجتهاد وفشو التعصب نقلا عن أبي شامة المقدسي الشافعي / ومنها اهتمام كثير من أهل هذه الأعصار بعلوم غير علوم الشريعة، أو بعلوم الشريعة ولكن بتعمقات لا دخل لها بالمسائل ـ أو كما قال رحمه الله ـ ويمكن الرجوع للرسالة فهو كلام جيد، فلم أنقل نصها لإعارتها لأحد الطلبة
وأيضا نبه على ذلك الإمام ولي الله الدهلوي في رسالته (الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف) حيث قال فيما جرى بعد المائة الرابعة:
¥