ولذلك يقسم بعض العلماء الرخصة إلى قسمين: رخصة إسقاط، ورخصة ترفيه. فالأولى تكون عندما يكون الأخذ بالرّخصة واجباً، إذا سقط حكم العزيمة، والثانية تكون عندما يكون الحكمان ثابتين.
وحكم الرّخصة هو: جواز العمل بها في مواضع الجواز، ففي هذا الحال يكون المكلّف مخيّراً بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة، فالمسافر في رمضان مخيَّرٌ بين الأخذ بالعزيمة وهو الصوم، وبين الأخذ بالرخصة وهي الإفطار؛ وذلك لأنّ النصوص الواردة في القرآن والحديث النّبوي جعَلَت الرّخصة في موضع الإباحة والتّخيير بعد طلب الفعل اللازم أو طلب التّكليف اللازم، لأنّ اليسر من مقاصد الشرع الإسلامي، كما قال تعالى {وما جعل عليكم في الدِّين مِنْ حَرَج} وكما قال سبحانه وتعالى {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.انتهى
من أصول الفقه لمحمد أبو زهرة.
وبعد أن أوضحتُ معنى الرخصة وأحكامها باختصار، أوردُ أقوال العلماء في رخصة المسح على الخفّين:
_ قال الإمام ابن تيمية: " .. أمّا طهارة المسح على الخفّين فليست واجبة، بل هو مخيّر بين المسح وبين الخلع والغسل؛ ولهذا وقّتها الشارع، ولم يوقتها بدخول وقت صلاة، ولا خروجها، ولكن لمّا كانت رخصةً ليست بعزيمة حدّ لها وقتاً محدوداً في الزمن، ثلاثاً للمسافر ويوماً وليلة للمقيم؛ ولهذا لم يجز المسح في الطهارة الكبرى. انتهى الفتاوى ج 21 صـ 361
_ وقال أيضاً: إنّ سبب الرّخصة الحاجة. انتهى الفتاوى ج 21 صـ 175
_ و إذا نظرتَ في الحديث الذي استشْهدوا به وهو أن الصحابة كانوا في سريّة فشكَوا إلى رسول الله ما أصابهم من شدّة البرد فأمرهم أن يمسحوا على التساخين والعصائب.
وجدتَ أن الصحابة كانوا يعانون من شدّة البرد فرخّص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على العصائب وهي العمائم، والتساخين وهي الخفاف. وهذا هو اليسر في الدّين.
ــ وانظر إلى تعليق شيخ الإسلام على هذا الحديث حيث قال:
" .. ومعلوم أن البلاد الباردة يحتاج فيها مَنْ يمسح التساخين والعصائب ما لا يحتاج إليه في أرض الحجاز، فأهل الشام والرّوم ونحو هذه البلاد أحق بالرخصة في هذا وهذا من أهل الحجاز، والماشون في الأرض الحزْنة والوعرة أحقّ بجواز المسح على الخف من الماشين في الأرض السهلة .. " انتهى الفتاوى ج 21 صـ 188
ـ كما روى البيهقي من طريق عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" أنا عند عمر حين اختصم إليه سعد وابن عمر في المسح على الخفّين، فقضى لسعد، فقلتُ: لو قلتم بهذا في السّفر البعيد والبرد الشّديد ".
وهذا سندٌ صحيحٌ جداً وعلى شرط الشيخين.
_ وقال الإمام ابن تيمية: " ولا يُشرعُ له أن يلبس الخفّين لأجل المسح. انتهى الفتاوى ج 26 صـ 94
_ ولذلك قال الإمام الكاساني في " بدائع الصنائع " ج 1
: .. ولأن الجواز في الخف لدفع الحرج لما يلحقه من المشقة بالنزع، وهذا المعنى موجود في الجورب، بخلاف اللفافة، والمكعب ; لأنه لا مشقة في نزعهما. انتهى
_ فكما ترى إن مفهوم الرّخصة عند العلماء مقرون بالأسباب التي لأجلها كانت الرّخصة، وليس بمعزل عنها، ألا ترى كيف وقّت النبي صلى الله عليه وسلم، لمّا رخّص بالمسح على الخفّين، للمقيم يوماً وليلة، وزاد المدّة إلى ثلاثة أيّام للمسافر، وما ذلك إلا لأنّ المشقّة , في نزع الخفّين للمسافر , قد زادت!
ــــ ونحن نعلم أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد قال:" إنّ الله يحبُّ أن تُؤتى رُخَصُه، كما يَكْرَهُ أن تُؤتَى معصيَتُه " رواه أحمد بسند صحيح
وفي رواية ابن حبّان والبيهقي " كما يحب أن تؤتى عزائمه " وسندها حسن.
ولكن يجب علينا أوّلاً أن نتيقّن من أن هذه الرخصة هي من عند الله. ثمّ لا نخرجها عن مفهوم الرّخصة في الشرع. وكما رأيتَ فإنّ رخصة المسح على الجوربين لم تثبت أبداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصحُّ لنا إطلاقُ العمل بها دون شروط المرخّصين بها، ودون دواعي الحاجة التي ذكروها. وقد مرّتْ معنا أقوالهم في شروط و ضوابط المسح على الخفّين الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بالك في المسحِِِِِ على الجوربين الذي لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم!
¥