أنا ألفت نظر إخواننا في كثير من المناسبات إلى حكمة عطف ربنا عز وجل قوله في هذه الآية: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) على مشاققة الرسول.
ما الحكمة من ذلك؟ مع أن الآية لو كانت بحذف هذه الجملة، لو كانت كما يأتي: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) لكانت كافية في التحذير وتأنيب من يشاقق الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم والحكم عليه في مصيره السيئ. لم تكن الآية هكذا، وإنما أظافة إلى ذلك قوله عز وجل: (ويتبع غير سبيل المؤمنين). هل هذا عبث؟ حاش لكلام الله من العبث.
إذا ما الغاية ما الحكمة من عطف هذه الجملة (ويتبع غير سبيل المؤمنين) على يشاقق الرسول؟ الحكمة في كلام الإمام الشافعي حيث استدل بهذه الآية على الإجماع. أي من سلك غير سبيل الصحابة الذين هم العصمة في تعبيرنا السابق، وهم الجماعة التي شهد لها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم لأنها الفرقة الناجية ومن سلك سبيلهم، هؤلاء هم الذين لا يجوز لمن كان يريد أن ينجو من عذاب الله يوم القيامة أن يخالف سبيلهم، ولذلك قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) (النساء/115).
إذا على المسلمين اليوم في آخر الزمان أن يعرفوا أمرين اثنين: أولاً: من هم المسلمون المذكورين في هذه الآية؟ ثم ما الحكمة في أن الله عز وجل أراد بها الصحابة الذين هم السلف الصالح ومن سار سبيلهم؟ قد سبق بيان جواب على هذا السؤال أو هذه الحكمة. وخلاصة ذلك أن الصحابة كانوا قريب عهد بتلقي الوحي غضاً طرياً من فم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أولاً. ثم شاهدوا نبيهم صلَّى الله عليه وسلَّم الذي عاش بين ظهرانَيْهِم يُطبق الأحكام المنصوص عليها في القرآن، والتي جاء ذكر كثير منها في أقواله عليه الصلاة والسلام.
بينما الخلف لم يكن لهم هذا الفضل، الإطلاع على تطبيق الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم لنصوص الكتاب والسنة تطبيقاً عملياً. ومن الحكمة التي جاء النص عليها في السنة قوله عليه السلام: (ليس الخبر كالمعاينة) (6) ومنه أخذ الشاعر قوله: (وماَ رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَ).
فإذاً الذين لم يشاهدوا الرسول عليه السلام ليسوا كأصحابه الذين شاهدوه وسمعوا منه الكلام مباشرة، ورأوه منه تطبيقاً عملياً.
اليوم توجد كلمة عصرية نبغ بها بعض الدعاة الإسلاميين، وهي تبدو جميلة جداً، لكن أجمل منها أن نجعلها حقيقة واقعة، يقولون في محاضراتهم وفي مواعظهم وإرشاداتهم: (إنه يجب أن نجعل الإسلام واقعاً يمشي على الأرض) كلام جميل.
لكن إذا لم نفهم الإسلام وعلى ضوء فهم السلف الصالح كما نقول، لا يمكننا أن نحقق هذا الكلام الشعر الجميل، أن نجعل الإسلام حقيقة واقعية تمشي على الأرض.
الذين استطاعوا ذلك هم أصحاب الرسول عليه السلام للسببين المذكورين آنفاً. سمعوا الكلام منه مباشرة فوعوه خير من وعى. ثم فيه هناك أمور تحتاج إلى بيان فعلي، رأوا الرسول عليه السلام يبين لهم ذلك فعلاً.
وأنا أضرب لكم مثلا واضحاً جداً: هناك آيات في القرآن الكريم لا يمكن للمسلم أن يفهمها إلا إذا كان عارفاً للسنة التي تبين القرآن الكريم كما قال عز وجل: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل/44).
مثلاً قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (المائدة/38).
الآن هاتوا سبويه هذا الزمان في اللغة العربية فليفسر لنا هذه الآية الكريمة (والسارق) من هو؟ لغة لا يستطيع أن يحدد السارق. واليد ما هي؟ لا يستطيع سبويه آخر الزمان، لا يستطيع أن يعطي جواباً على هذين السؤالين: من هو السارق الذي يستطيع أو الذي يستحق قطع اليد؟ وما هي اليد التي ينبغي أن تُقطع بالنسبة لهذا السارق؟ في اللغة: السارق لو سرق بيضة فهو سارق، واليد هي هذه، لو قطعت هنا، ووهنا أو في أي مكان فهي يد. لكن الجواب هو في الآية السابقة: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل/44). الجواب في البيان، فهناك بيان بينه الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم للقرآن. هذا البيان (لفظة غير مفهومة) عليه السلام فعلاً. في خصوص هذه الآية كمثل وفي خصوص الآيات الأخرى وما أكثرها، لأن من قرأ علم الأصول، يقرأ في علم الأصول بأن هناك عام وخاص ومطلق ومقيد
¥