1 ـ الذريعة التي توصل إلى المحرَّم قطعاً؛ فهذه محرَّمة قطعاً، كحفر بئر أو حفرة في الطريق العام، أو وضع المواد السامة في مياه المسلمين.
2 ـ الذريعة التي لا تفضي إلى المحرَّم إلا نادراً، كزراعة العنب؛ فمع أنه قد يُتَّخذ خمراً، لكن ليس هذا الغالب في استعماله، وعلى ذلك فلا يقال بحرمته، وكذلك لا يمنع من المجاورة في البيوت خوف الوقوع في الزنا، وهذه غير محرَّمة بالإجماع.
3 ـ الذريعة التي بين القسمين، كالحِيَل الربوية في البيوع، وهذه محل النزاع؛ فمالك ـ رحمه الله ـ كثر عنده المنع منها، حتى اشتُهِر بسد الذرائع.
ولهذا يقول القرافي بعد أن قسَّم الذرائع إلى مُجْمَع على سده ومُجْمَع على عدم سده ومُخْتَلَف فيه: (وليس سد الذرائع خاصاً بمالك - رحمه الله - بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدها مجمع عليه) (2).
ü آراء العلماء في مسألة سد الذرائع:
اشتهر العمل بقاعدة سد الذرائع عن الإمام مالك (3) والإمام أحمد (4)، وعمل بها أصحابهما.
وكذلك اشتهر عن الإمام الشافعي أنه لا يعمل بسد الذرائع، وكذلك الحنفية اشتهر عنهم العمل بالحِيَل، وظاهر ذلك أنهم لا يقولون بسد الذرائع؛ فهل الحنفية والشافعية لا يعملون بسد الذارئع؟
الحقيقة أننا نجد عند الحنفية في فروع عدة تعليل بعض الأحكام بسد الذرائع، منها: البدء بقتال البغاة؛ فالبغاة مسلمون؛ والأصل ألا يقاتل المسلم ابتداء بل لا يقاتل إلا دفعاً، لكن المذهب عند الحنفية البدء بقتالهم إذا تحيَّزوا وتهيؤوا للقتال؛ وذلك لئلا يكون عدم قتالهم ذريعة لتقويتهم، ولعلهم إذا قووا لا يمكن دفعهم (5).
وعندهم يُكرَه لمن خاف الحَيْف أن يتولى القضاء لئلا يكون ذلك ذريعة إلى الظلم (6).
ومرادهم بالكراهة هنا كراهة التحريم؛ لأن الغالب الوقوع في المحظور (7).
وعللوا تركَ المعتدَّةِ الطيبَ والزينةَ والكحل والدهن المطيب وغير المطيب بأن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة من النكاح فتجتنبها كي لا تصير ذريعة على الوقوع في المحرم (8).
وفي مسألة مصادرة السلطان لأرباب الأموال ذكروا أن ذلك محرم، ولا يجوز إلا لعمال بيت المال، والمراد بعمال بيت المال خَدَمَتُه الذين يجبون أمواله، ومن ذلك كَتَبَتُه إذا توسعوا في الأموال؛ لأن ذلك دليل على خيانتهم، وألحقوا بهم كَتَبَة الأوقاف ونُظَّارها إذا توسعوا وتعاطوا أنواع اللهو وبناء الأماكن .. ، لكن مع ذلك قال بعض الحنفية: «هذا مما يُعْلَم ويُكْتَم، ولا تجوز الفتوى به؛ لأنه يكون ذريعة إلى ما لا يجوز؛ وذلك لأن حكام زماننا لو أُفتوا بهذا وصادروا مَنّ ذُكِرَ لا يردون الأموال إلى الأوقاف ... » (9).
وأما الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ فهو الذي اشتهر عنه عدم العمل بسد الذرائع، ولكن عند النظر في بعض المسائل التي ذكرها نجد أنه يعمل بسد الذرائع، مثل ما ذكره في مسألة منع فضل الماء؛ حيث قال ـ رحمه الله ـ: (منعُ الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله (10) عامٌّ يحتمل معنيين: أحدهما: أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى ...
(ثم قال): فإن كان هذا هكذا؛ ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام، ويحتمل أن يكون منع الماء إنما يُحَرَّم؛ لأنه في معنى تلف على ما لا غنى به لذوي الأرواح والآدميين وغيرهم، فإذا منعوا فضل الماء منعوا فضل الكلأ، والمعنى الأول أشبه. والله أعلم) (11).
فهل الشافعي لا يراعي الذريعة إلى المحرم مطلقاً، وهل مراعاته للذريعة في بعض المسائل يعدّ تناقضاً منه؟
قال تقي الدين السبكي بعد أن قرر مذهب الشافعي في مسألة العِينة، وبعد أن ذكر كلام الشافعي السابق في مسألة منع فضل الماء: (قد تأملته (أي النص السابق) فلم أجد فيه متعلقاً قوياً لإثبات قول سد الذرائع، بل لأن الذريعة تعطى حكم الشيء المتوصَّل بها إليه، وذلك إذا كانت مستلزمة له كمنع الماء؛ فإنه مستلزم لمنع الكلأ، ومنع الكلأ حرام، ووسيلة الحرام حرام.
¥