وهذا القسم ـ إن قلنا بإثباته (1) ـ نجد أن العمل به موجود في المذاهب كلها، ولكن الإشكال كالإشكال السابق؛ فإنه يوجد من توسع فيه، وأكثرُ من توسع فيه مالك ثم أحمد، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتبار هذا الأصل في الجملة (2).
والفقهاء الذين يمنعون العمل بالمصالح المرسلة سيضطرون إلى القول بموجبها عند التطبيق الفقهي وإن سموا عملهم هذا قياساً أو استحساناً أو غير ذلك؛ فالمؤدى واحد، وخذ مثلاً على ذلك إمام الحرمين فقد كاد يوافق الإمام مالك مع مناداته عليه بالنكير (3).
وقال القرافي: (المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق؛ لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك، ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة: أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد الاعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير (ثم ساق أمثلة من فعل الصحابة، ثم قال): وذلك كثير جداً لمطلق المصلحة، وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى بالغياثي أموراً وجوَّزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها، وجسر عليها وقالها للمصلحة المطلقة، وكذلك الغزالي في شفاء الغليل مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة) (4).
وفي الشروط التي وضعها بعض الفقهاء ـ كاشتراط الغزالي (5) أن تكون المصلحة كلية قطعية ضرورية ـ تضييق لنطاق العمل بالمصالح قد يؤدي إلى إغلاق باب العمل بها، وعند التطبيق سيكون أوَل التاركين لتلك الشروط مَنْ وضعها.
وعند التأمل في التطبيق الفقهي للمصالح سنرى أن الصحابة والتابعين وأئمة الفقه عملوا بالمصالح وإن اختلفت ألفاظهم في الاستدلال لهذه المصالح، وسبب الخلاف الموجود في كتب الأصوليين يعود ـ كما ذكر بعض الباحثين (6) ـ إلى عدم تحديد المراد باعتبار الاستصلاح أو عدم اعتباره عند نقلهم للخلاف، وكذلك إلى عدم التثبت في نقل الآراء.
ولا يعني ذلك اعتبار المصالح مطلقاً من دون ضابط، بل لا بد للعمل بالمصالح من شروط:
1 ـ فلا بد أن تكون موافقة لمقاصد الشارع محافظة على الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والعرض والمال).
2 ـ ويُشترَط لها ألا تعارِض دليلاً شرعياً.
3 ـ وألا تفوِّت مصلحة أعلى منها (7).
4 ـ كما يُشترَط للمصلحة أن تكون حقيقية ـ تجلب نفعاً وتدفع ضراً ـ لا موهومة، فلا بد لها من إطالة النظر والتأمل في جميع الأوجه قبل الحكم بالمصلحة.
5 ـ ويُشترَط لها أن تكون عامة للناس أو لأكثر الناس، لا مصلحة لفئة معينة من الناس كمصلحة السادة أو التجار على حساب غيرهم (8).
ولكن ـ ومع ما سبق ذكره ـ فسيبقى هناك إشكال في تحرير بعض الشروط وفي مجال تطبيق المصلحة. ومن المجالات التي ستكون سبباً للخلاف في بعض المسائل:
ـ التدرج في تطبيق أحكام الشريعة في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية؛ فهل التدرج في الشريعة يعدّ مصادماً للنصوص الشرعية التي أمرت بالعمل بالشريعة جملة وتفصيلاً، فلا بد من الأخذ بالشريعة جملة وتفصيلاً دون الانتقاء منها، والتدرج انتقاء؛ فهو أخذ لبعض الكتاب دون بعض، أم أنه موافق للشريعة التي جاءت أحكام عديدة منها بالتدرج كتحريم الخمر ومشروعية الجهاد؟ وهل الأحكام التي نزلت قبل الهجرة ونزل بعد الهجرة خلافها منسوخة؟ أم أنه يمكن للمسلمين إذا كانت حالتهم قريبة من المرحلة المكية أن يأخذوا ببعض أحكامها؟
ـ ترك بعض الأحكام الشرعية تركاً مؤقتاً مراعاة لمصلحة أعظم: هل يُعَدُّ ذلك مصادماً للنصوص الشرعية، أم يكون هذا الترك كترك قتل المنافقين، وترك حد السرقة عام الرمادة، فيكون مستنداً إلى دليل آخر ولا يعدّ مصادماً للدليل؟ وهذا ما يسميه كثير من الأصوليين بالاستحسان، ولكن حتى مع القول بمشروعية ذلك، ما ضوابطه؟
ـ الضرورة والحاجة العامة وتأليف القلوب ومراعاة الأوليات أمور يُعلل بها كثيراً ترك ظواهر النصوص، ولهذه الأمور ما يشهد لها شرعاً، لكن ـ أيضاً ـ هذه الأمور تحتاج إلى ضبط.
ـ أفعال الرسول # منها ما فعله بحكم العادة والجِبِلَّة، ومنها ما فعله من أجل التشريع، والذي فعله من أجل التشريع منه ما فعله لكونه مفتياً، ومنه ما فعله لكونه قاضياً، ومنه ما فعله لكونه إماماً اتبع فيه المصلحة الحالية. وعلى ذلك سيقع خلاف في تفسير بعض الأفعال: هل فعله لكونه مفتياً أم لكونه إماماً؟ ولعل من أوائل القضايا التي وقع فيها الخلاف قسمة الأرض المفتوحة؛ فقد كان النبي # يقسمها، ومع ذلك عمر لم يقسم أرض السواد، وخالفه في ذلك بعض الصحابة.
هذه لمحة عامة عن سد الذرائع والعمل بالمصالح، لم أرد منها الاستقصاء، ولكني أردت أن أبيِّن أن هذين الأصلين أصلان مهمان لا بد أن يفهمها المفتي جيداً ويعمل بهما وفق الضوابط الشرعية دون الالتفات إلى ما يقوله الناس، ومن دون ذلك سيضيع المستفتي بين سد الذرائع والعمل بالمصلحة.
والله أعلم، وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
http://albayan-magazine.com/bayan-228/bayan-02.htm
¥