الأول: إن تخصيص تعاقب الجمل بالواو يفهم منه عدم وجود الخلاف في حروف العطف الأخرى، وليس بصحيح إذ الخلاف جار في حكم الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعاقبة بحروف العطف الأخرى.
الثاني: إن عبارة الامدي توهم إن الخلاف يكون بين الجمل المتعاطفة فقط وليس بصحيح بل الخلاف يجري أيضا بين الجمل المتعاقبة بدون عطف مثل الجمل المتعاقبة على سبيل التعداد.
الثالث: إن لفض الجمل يشعر إن الخلاف لا يجري في الجملتين وليس بصحيح بل الخلاف حاصل بين الجملتين كذالك.
ولهذا فالصواب إن يقال في ترجمه هذه المسالة ما قدمناه أعلاه والله اعلم.إذا فهم ذالك نقول:
إذا ورد الاستثناء بـ (إلا) أو إحدى أخواتها عقب جملتين فصاعدا وهناك دليل يدل على رجوع الاستثناء إلى إحدى الجمل فالعلماء متفقون على العمل. بمقتضى ذالك الدليل
أمثله: مثال (1)
قوله تعالى: (إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فانه مني إلا من اغترف غرف بيده) فالاستثناء (إلا من اغترف غرفه بيده) راجع إلى الجملة الأولى (فمن شرب منه فليس مني) (53).
مثال (2):
قوله تعالى (لا يحل لك النساء من بعد ولا إن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك) فالاستثناء (إلا ما ملكت يمينك)
راجع إلى (النساء) لا إلى (الأزواج) لان الأزواج لا يدخل تحتها ملك اليمين من الإماء، بعكس لفض النساء يشتمل الأزواج وملك اليمين (54)
مثال (3):
قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنه ودية مسلمه إلى أهله إلا إن يصدقوا) فالاستثناء (إلى إن يصدقوا) راجع إلى الدية دون ألكفاره وهي عتق الرقبة لان أهل المقتول لهم الحق يتصدقوا بالدية وإما ألكفاره فهي من حق الله سبحانه فليس لهم الحق في إسقاطها (55).
مثال (4):
قوله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا إن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أين ينفوه من الأرض ذالك لهم فالدنيا خزي وله فالاخره عذاب عظيم إلى الذين تابوا) فالاستثناء (إلا الذين تابوا) راجع إلى كل الجمل السابقة. ونقل ابن النجار عن السمعاني الإجماع على ذالك (56).
وإما إذا تجرد الكلام عن قرينه فقد اختلف أعلماء في ذالك إلى تسعة أقوال والصحيح منها إن الاستثناء يعود إلى جميع الجمل المتقدمة وهو قول مالك والشافعي واحمد وابن حزم وابن تيميه رحمهم الله تعالى (57)
والدليل على ذالك:
1 - إن الشرط إذا ورد عقب جمل متعددة فانه يعود على الجميع اتفاقا، فكذالك الاستثناء لان الاستثناء كالشرط من حيث المعنى إلا ترى إن قوله تعالى (أولائك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) بمعنى أولائك هم الفاسقون إن لم يتوبوا.
2 - إن حرف العطف جعل الجمل المتعددة كالجملة الواحدة وكما إن الاستثناء يرجع إلى جميع أجزاء الجملة الواحدة فكذالك هو يرجع إلى جميع الجمل المتعددة.
3 - إن الاستثناء صالح للعود على الجميع فتخصيص ذالك ببعض الجمل دون بعض تحكم.
4 - قال ابن حزم:
إن كل ألفاظ جمعت في حكم واحد فلم يكمل بعد أمرها حتى ينقضي الكلام فإذا جاء يعقبها استثناء فقد صح الاستثناء يقينا وإذا صح يقينا فقد حصل التخصيص بالنص وصار الاقتصار به على بعض ما قبله دون بعض دعوى مجرده لا دليل عليه (58).
5 - قال ابن النجار:
واحتج الشيخ تقي الدين فقال: من تأمل غالب الاستثناء في الكتاب وألسنه واللغة وجدها للجميع والأصل إلحاق المفرد بالغالب (59).
ثمرة الخلاف:
قال تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلده ولا تقبلوا لهم الشهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ألا الذين تابوا من بعد ذالك وأصلحوا فان الله غفور رحيم). ذهب جمهور العلماء إلى قبول شهادة المحدود في حد القذف إذا تاب وقالوا إن الاستثناء (إلا الذين تابوا) راجع إلى جميع الجمل المتقدمة. وذهب الحنفية إلى عدم قبول شهادته لان الاستثناء راجع إلى الجملة الاخيره فقط وان التوبة ترفع الفسق فقط. والصحيح هو قول الجمهور كما قدمنا أنفا، وان التوبة ترفع الفسق وتقبل الشهادة بها.
فان قيل: يلزم الجمهور القول بسقوط الحد بالتوبة أي إن الاستثناء يعود إلى الجملة (فاجلدوهم ثمانين جلده) وهو ليس بصحيح؟
¥