الرابع: قول القائل: كان قبل ذلك ناقصاً، إن أراد به عدم ما تجدد فلا نسلم أنَّ عدمه قبل الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه يكون نقصاً، وإن أراد بكونه ناقصاً معنى غير ذلك فهو ممنوع بل يقال: عدم الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه من الكمال كما أن وجوده في وقت اقتضاء الحكمة وجوده فيه كمال، فليس عدم كل شيء نقصاً بل عدم ما يصلح وجوده هو النقص كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص، فتبين أنَّ وجود هذه الأمور حين اقتضت الحكمة عدمها هو النقص لا أنَّ عدمها هو النقص.
الخامس: أنا إذا قدرنا من يقدر على إحداث الحوادث لحكمة، ومن لا يقدر على ذلك كان معلوماً ببديهة العقل أن القادر على ذلك أكمل مع أن الحوادث لا يمكن وجودها إلا حوادث لا تكون قديمة، وإذا كانت القدرة على ذلك أكمل، وهذا المقدور لا يكون إلا حادثاً كان وجوده هو الكمال وعدمه قبل ذلك من تمام الكمال؛ إذ عدم الممتنع الذي هو شرط في وجود الكمال من الكمال.
3 – قالوا: يلزم على القول بالتعليل التسلسل ووجهه:
لو كان فعله تعالى معللاً بعلة فهذه العلة إمَّا أنْ تكون قديمة فيلزم قدمها قدم الفعل؛ لأن العلة التامة يجب أن يكون معها معلولها في الزمان، وهذا خلاف ما دلَّ عليه الدليل من أنَّ كلَّ ما سوى الله حادث.
وإن كانت هذه العلة حادثة فإما أن تكون لسبب أولا، فإن كانت لا لسبب لزم ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح وهو مُحَال، وإن كانت لسبب حادث نقلنا الكلام لذلك السبب، فإن كان حدث لا لعلة لزم الترجيح بلا مرجِّح، وإن حدث لعلة فتلك العلة لا بد لها من علة أخرى وهكذا فيلزم التسلسل.
وأجيب عن هذا الدليل من أوجه منها:
أحدها: أن يقال: هذا التسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية؛ فإنه إذا فعل فعلاً لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل، فإذا كانت تلك الحكمة يطلب منها حكمة أخرى بعدها كان تسلسلاً في المستقبل، وتلك الحكمة الحاصلة محبوبة له وسبب لحكمة ثانية فهو لا يزال سبحانه يحدث من الحكم ما يحبُّه ويجعله سبباً لما يحبُّه، والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل فإنَّ نعيم الجنَّة وعذاب النَّار دائمان مع تجدد الحوادث فيهما.
الثاني: أن يقال: التسلسل نوعان:
أحدهما: التسلسل في الفاعلين، وهو التسلسل في المؤثرات، وهو أن يكون لكل فاعلٍ فاعلٌ، فهذا باطل بصريح العقل و اتفاق العقلاء.
و الثاني: التسلسل في الآثار مثل أن يقال: إنَّ اللَّه لم يزل متكلماً إذا شاء، و يقال: إنَّ كلمات اللَّه لا نهاية لها فهذا التسلسل يجوزه أئمَّة أهل الملل، و أئمة الفلاسفة.
الثالث: أنَّ التسلسل إمَّا أن يكون ممكناً أو ممتنعاً، فإن كان ممكناً بطل استدلالكم، وإن كان ممتنعاً أمكن أن يقال في دفعه: تنتهي المرادات إلى مراد لنفسه لا لغيره، وينقطع التسلسل.
4 – قالوا: جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين: تحصيل اللذة والسرور، ودفع الألم والحزن والغم، والله سبحانه قادر على تحصيل هذين المطلوبين ابتداء من غير شيء من الوسائط، ومن كان قادراً على تحصيل المطلوب ابتداء بغير واسطة كان توسله إلى تحصيله بالوسائط عبثاً وهو على الله مُحَال.
وقد أُجيب عن هذا الدليل بأجوبة منها:
الجواب الأول: أن يقال لا ريب أنَّ اللَّه على كلِّ شيء قدير لكن لا يلزم إذا كان الشيء مقدوراً ممكناً أن تكون الحكمة المطلوبة لوجوده يمكن تحصيلها مع عدمه فإن الموقوف على الشيء يمتنع حصوله بدونه كما يمتنع حصول الابن بكونه ابنا بدون الأب فإن وجود الملزوم بدون لازمه مُحَال، والجمع بين الضِّدين مُحَال، ولا يقال: فيلزم العجز؛لأن المُحَال ليس بشيء فلا تتعلق به القدرة، والله على كل شيء قدير فلا يخرج ممكن عن قدرته البتة.
الثاني: أنَّ دعوى كون توسُّط أحد الأمرين إذا كان شرطاً أو سبباً له عبث دعوى كاذبة باطلة؛ فإنَّ العبث هو الذي لا فائدة فيه، وأمَّا توسُّط الشرط أو السبب أو المادة التي يحدث فيها ما يحدثه فليس بعبث.
الثالث: أنَّ قولكم: يلزم العبث، وهو على الله محال فيقال: إن كان العبث عليه محالاً لزم أن لا يفعل ولا يأمر إلا لمصلحة وحكمة فبطل قولكم بقولكم، وإن لم يكن العبث عليه محالاً بطلت هذه الحجة.
¥