تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فـ[المقدمة الأولى] وجدانية و [الثانية] عملية استدلالية؛ فليس الظن هنا مقدمة في الدليل كما توهمه بعضهم، لكن يقال: العمل بهذا الظن هو حكم أصول الفقه، ليس هو الفقه، بل الفقه هو ذاك الظن الحاصل بالظاهر، وخبر الواحد والقياس والأصول تفيد أن العمل بهذا الظن واجب. وإلا فالفقهاء لا يتعرضون لهذا، فهذا الحكم العملي الأصولي ليس هو الفقه، وهذا الجواب جواب القاضي أبي بكر، وهو بناه على أصله؛ فإن عنده كلَّ مجتهد مصيبٌ، وليس في نفس الأمر أمر مطلوب، ولا على الظن دليل يوجب ترجيح ظن على ظن، بل الظنون عنده بحسب الاتفاق.

وقال الغزالي وغيره ـ ممن نصر قوله ـ: قد يكون بحسب ميل النفس إلى أحد القولين دون الآخر، كميل ذي الشدة إلى قول، وذي اللين إلى قول.

وحينئذ فعندهم متى وجد المجتهد ظنًا في نفسه، فحكم اللّه في حقهاتباع هذا الظن. وقد أنكر أبو المعالي وغيره عليه هذا القول إنكارًا بليغًا، وهم معذورون في إنكاره؛ فإن هذا أولاً مكابرة، فإن الظنون عليها أمارات ودلائل يوجب وجودها ترجيح ظن على ظن، وهذا أمر معلوم بالضرورة، والشريعة جاءت به ورجحت شيئًا على شىء، والكلام في شيئين: في اتباع الظن، وفي الفقه هل هو من الظنون؟

أما الأول: فالجواب الصحيح هو الجواب الثالث، وهو أن كل ما أمر اللّه تعالى به فإنما أمر بالعلم، وذلك أنه في المسائل الخفية عليه أن ينظر في الأدلة، ويعمل بالراجح، وكون هذا هو الراجح أمر معلوم عند أمر مقطوع به، وإن قدر أن ترجيح هذا على هذا فيه شك عنده لم يعمل به، وإذا ظن الرجحان فإنما ظنه لقيام دليل عنده على أن هذا راجح، وفرق بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد، أما اعتقاد الرجحان فقد يكون علمًا وقدلا يعمل حتى يعلم الرجحان، وإذا ظن الرجحان أيضًا فلابد أن يظنه بدليل يكون عنده أرجح من دليل الجانب الآخر، ورجحان هذا غير معلوم، فلابد أن ينتهي الأمر إلى رجحان معلوم عنده، فيكون متبعًا لما علم أنه أرجح، وهذا اتباع للعلم لا للظن وهو اتباع الأحسن، كما قال: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، وقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]،وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} [الزمر: 55]. فإذا كان أحد الدليلين هو الأرجح فاتباعه هو الأحسن، وهذا معلوم.

فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره، وهو العمل بأرجح الدليلين المتعارضين. وحينئذ، فما عمل إلا بالعلم وهذا جواب الحسن البصري، وأبيّ وغيرهم. والقرآن ذم من لا يتبع إلا الظن فلم يستند ظنه إلى علم بأن هذا أرجح من غيره؛ كما قال: {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]، وقال: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ

الظَّنَّ} [الأنعام: 148]، وهكذا في سائر المواضع يذم الذين إن يتبعون إلا الظن، فعندهم ظن مجرد لا علم معه، وهم يتبعونه، والذي جاءت به الشريعة وعليه عقلاء الناس أنهم لا يعملون إلا بعلم بأن هذا أرجح من هذا، فيعتقدون الرجحان اعتقادًا عمليًا، لكن لا يلزم إذا كان أرجح ألا يكون المرجوح هو الثابت في نفس الأمر.

وهذا كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (ولعل بعضكم أن يكون ألْحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع)، فإذا أتى أحد الخصمين بحجة، مثل بينة تشهد له، ولم يأت الآخر بشاهد معها، كان الحاكم عالمًا بأن حجة هذا أرجح، فما حكم إلا بعلم، لكن الآخر قد يكون له حجة لا يعلمها أو لا يحسن أن يبينها، مثل أن يكون قد قضاه أو أَبرأه، وله بينة تشهد بذلك، وهو لا يعلمها، أو لا يذكرها، أو لا يجسر أن يتكلم بذلك، فيكون هو المضيع لحقه، حيث لم يبين حجته، والحاكم لم يحكم إلا بعلم وعدل، وضياع حق هذا كان من عجزه وتفريطه لا من الحاكم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير