تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقال الغزالي في "المستصفى" (ص: 23): "وهذه الألفاظ - يعني الأحكام التكليفية الخمسة - لا شك أنها لا تُطلق على جوهر؛ بل على عَرَض, ولا على كل عَرَض؛ بل من جملتها على الأفعال فقط، ومن الأفعال على أفعال المكلَّفين، لا على أفعال البهائم".اهـ.

وقد اختلف الأصوليون في تعلُّق الأحكام بالأعيان، على ثلاثة أقوال:

الأول: ذهب الحنفية في المعتمَد - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - إلى أن الأحكام تتعلق بالأعيان، وأن الأعيان منشأ الحرمة، وذلك بطريق الحقيقة لا المجاز، كالتحريم والتحليل المضافَيْنِ إلى الفعل، فيوصف المحل أولاً بالحرمة، ثم تَثبُت حرمةُ الفعل بناءً عليه، فيثبت التحريم عامًّا، وهو ما ذهب إليه فخر الإسلام البزدوي، وصدر الشريعة، وغيرُهما، ونسب ابن عابدين هذا القولَ للمذهب، حيث قال في "رد المحتار": "قلتُ: وفيه أن إسناد الحرمة إلى العين حقيقةٌ عندنا، كما تقرَّر في كتب الأصول، على معنى إخراج العين عن محلِّيَّة الفعل، لينتفي الفعل بالأَوْلى".اهـ.

وقال السَّرَخْسِي - رحمه الله - في "أصوله": "وقالوا: امتنعَ ثبوتُ حكم العموم في هذه الصورة معنًى؛ لدلالة محل الكلام، وهو أن الحِلَّ والحرمة لا تكون وصفًا للمَحلِّ، وإنما تكون وصفًا لأفعالنا في المحل حقيقة، فإنما يصير المحل موصوفًا به مجازًا، وهذا غلط فاحش، فإن الحرمة بهذه النصوص ثابتة للأعيان الموصوفة بها حقيقة؛ لأن إضافة الحرمة إلى العين تنصيصٌ على لزومه، وتحقُّقه فيه، فلو جعلنا الحرمةَ صفةً للفعل لم تكن العين حرامًا، ألاَ ترى أن شربَ عصير الغير، وأكلَ مال الغير، فعلٌ حرام، ولم يكن ذلك دليلاً على حرمة العين، ولزوم هذا الوصف للعين، ولكن عمل هذه النصوص في إخراج هذه المَحالِّ من أن تكون قابلةً للفعل الحلال، وإثبات صفة الحرمة لازمة لأعيانها، فيكون ذلك بمنزلة النسخ، الذي هو رفع حكم، وإثبات حكم آخر مكانه، فبهذا الطريق تقوم العين مقامَ الفعل في إثبات صفة الحُرمة والحِلِّ له حقيقة، وهذا إذا تأملتَ في غاية التحقيق".اهـ.

وقال ابن تيمية في "العمدة": "التحريم والتحليل في مثل هذا إنما يُضاف إلى الأعيان، وإذا كان المراد أفعال المكلَّفين؛ كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، و {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، و {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، و {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وهذا كثير في القرآن والحديث".اهـ.

ففي الحرام لعينه: المحلُّ أصلٌ، والفعل تَبَعٌ؛ بمعنى أن المحل أُخرج أولاً من قَبول الفعل ومُنع، ثم صار الفعل ممنوعًا ومُخرَجًا عن الاعتبار، فحسن نسبة الحرمة، وإضافتها إلى المحل دلالة على أنه غير صالح للفعل شرعًا، حتى كأنه الحرام نفسه، ولا يكون ذلك من إطلاق المحل وإرادة الفعل الحال فيه، بأن يُراد بالميتة أكلُها؛ لما في ذلك من فوات الدلالة على خروج المحل عن صلاحية الفعل.

ويقابل المحرَّمَ لعينه المحرمُ لغيره، والفرق بينهما: أن المحرَّم لعينه (لذاته) تكون العين فيه ليست محلاًّ للفعل؛ كالميتة والخنزير وسائر النجاسات، والمحرَّم لغيره هو ما كان مباحًا في الأصل؛ كالخبز، لكن يَحرُم أكلُه على غير مالكه، والمحل قابل للأكل في الجملة، بأن يأكله مالكه، بخلاف الأول، فإذا أضيفتْ الحرمة فيه إلى المحل، يكون على حذف المضاف، أو على إطلاق المحل على الحالِّ.

ويُطلِق بعضُ الفقهاء على الأول: محرَّمًا بالأصل، وعلى الثاني: محرمًا بالوصف، ففي المحرم لغيره إذا قيل: هذا الخبز حرام، يكون مجازًا، بإطلاق اسم المحل على الحالِّ؛ أي أكله حرام، وإذا قيل: الميتة حرام، فمعناه أنها منشأ الحرمة، لا أنه ذكر المحلَّ وقصد به الحالَّ.

هذا تقرير الرأي الأول عند الحنفية ومَن وافقهم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير