وكثرة المسائل الدخيلة في أصول الفقه تطبيقيًّا، أمر أوضح من أن يستدل له، وقد نص على ذلك كثير من الأصوليين، بل كتب بعض المعاصرين رسالة في مجلد لطيف بعنوان: "المباحث اللغوية وأثرها في أصول الفقه دراسة في كتاب شرح جمع الجوامع للمحلي" للباحث: نشأت علي محمود. فإذا كان هذا في شرح جمع الجوامع فقط، فما بالك بغيره من المصادر الأصولية الموسعة؟
وقد كُتب أيضًا في تمييز المسائل الكلامية عن المسائل الأصولية، ومن أشهر مَن ميّز هذه المسائل العروسي في كتابه: "المسائل المشتركة"، وممن بيّن وجمع المسائل الأصولية المبنيّة على المسائل الكلامية واللغوية الزركشي (ت:794هـ) في كتابه: "سلاسل الذهب" وهو تصنيف مبتكر لم يُسبق إلى مثله، ولم يُنسج على منواله.
الخلاصة: وجود مسائل ليست من أصول الفقه أمر لا جدل فيه، ودونك هذا المثال:
قال الرازي (ت:606هـ): (وأما الكلام، فهو الجملة المفيدة، وهي إما الجملة الاسمية، كقولنا زيد قائم، أو الفعلية، كقولنا قام زيد، وإما مركب من جملتين) ([16] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn16)).
قال عبد المؤمن الحنبلي (ت:739هـ): (و"الكلام" هو المنتظم من الأصوات المسموعة المعتمدة على المقاطع وهي الحروف، وهو جمع كلمة، وهي اللفظ الموضوع لمعنى. وخص أهل العربية الكلام المفيد وهو الجمل المركبة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر، وغير المفيد كلم) ([17] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn17)).
وهذا الأمثلة جزء من عشرات الأمثلة، وكتب الأصول في ذلك تكاد تكون متطابقة، فالمثال الواحد يكفي في إثبات القضية؛ وذلك لغلبة النقل عليهم.
قال الإسنوي (ت:772هـ): (واعلم أن المصنف –رحمه الله- أخذ كتابه من الحاصل للفاضل تاج الدين الأرموي، والحاصل أخذه مصنفه من المحصول للإمام فخر الدين، والمحصول استمداده من كتابين لا يكاد يخرج عنهما غالباً أحدهما المستصفى لحجة الإسلام الغزالي، والثاني المعتمد لأبي الحسين البصري، حتى رأيته ينقل منهما الصفحة أو قريباً منها بلفظها، وسببه –على ما قيل- أنه كان يحفظهما، فاعتمدت في شرحي لهذا الكتاب مراجعة هذه الأصول) ([18] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn18)).
هذا النصّ يدلك على كثرة النقل لديهم، والعيب في ذلك ليس في مجرد النقل، وإنما في النسخ المتطابق من غير إضافة ولا تحرير، وهذا أثر كبير من آثار التقليد الذي بلينا به.
قال الشوكاني (ت:1250هـ): (- بعد ذكره لأهمية علم الأصول – وكانت مسائله المقررة، وقواعده المحررة تؤخذ مسلمةً عند كثير من الناظرين، كما تراه في مباحث الباحثين، وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد لما قاله بكلمة من كلام أهل الأصول أذعن لها المنازعون، وإن كانوا من الفحول، لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن قواعد مؤسسةٌ على الحق الحقيق بالقبول، مربوطة بأدلةٍ علمية من المعقول والمنقول، تقصر عن القَدحِ في شيءٍ منها أيدي الفحول، وإن تبالغت في الطول) ([19] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn19)).
بهذا نكون قد استوفينا بإيجاز التقرير الدال (نظريًّا وتطبيقيًّا) من خلال كتب الأصول على صدق هذا المفهوم الذي ذكرناه، كما قد بان لك من خلال النقول السابقة حاجة هذا العلم إلى التجديد والمراجعة في كثير من مواده، ولا سيما التي تضمنها هذا المعنى وهو: هو إبراز القواعد الأصولية للمستفيد، وتأصيلها بالأدلة الشرعية، وتصفيتها من كلّ ما علق بها مما ليس منها، وكل ما اتصل بها ولم يثمر فرعا.
الخلاصة: أن علم الأصول من أحوج العلوم إلى التجديد وتنقيته والنهوض به وتحرير مسائله، وأسباب ذلك لا تخفى على الممارسين له كما سيأتي. ولعل هذا ما جعل بعض الأيدي تتناوله بحق، أو تتطاول عليه بلا حق. والدراسات التي تناولت موضوع التجديد في الأصول، تختلف باختلاف أصحابها وتوجهاتهم ومقاصدهم، ورد دعوى التجديد بالكلية ليس سديداً، فقد يصدق الكذوب، ويجود البخيل، غير أنها قد ترشدك وتنبهك على مواطن الخلل أحيانا، فخذ منها ودع، والحكمة ضالة المؤمن، وعليه لا بد أن تعلم أن الرد الجملي بلا تفصيل لا يستقيم.
مواقف الناس من التجديد
¥