[التبيان لبعض ما تضمنته بعض الآيات من أسرار البيان]
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[20 - 04 - 08, 02:15 م]ـ
بسم الله والحمد لله
هذه شذرات من بلاغة القرآن العظيم، وأسأل الله أن يعيننا فيها على المداومة في جمعها وأن يوفقنا فيها للصواب وحسن الاختيار.
الفائدة الأولى:
قال الشيخ طاهر الجزائري في (التبيان لبعض المباحث التعلقة بالقرآن على طريق الإتقان) (ص289):
(لا بد من وقوع المناسبة بين مطالع الكلام ومقاطعه، إلا أنه قد يخفى ذلك في بعض المواضع على من لم يكن بارعاً في علم البيان، وذلك مثل قوله تعالى (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين)، فإن الظاهر أن يقال: ذو عقوبة شديدة؛ وإنما قال: (ذو رحمة واسعة) نفياً للاغترار بسعة رحمة الله تعالى في الاجتراء على معصيته؛ وذلك أبلغ في التهديد؛ ومعناه: لا تغتروا بسعة رحمة الله تعالى فإنه مع ذلك لا يُردّ عذابُه عن مثلكم من المجرمين).
الفائدة الثانية:
قال محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة 173]: (ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر (غفور) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال: إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية؛ وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات؟ والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جداً، ومرجعه إلى اجتهاد المضطر، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق، وأن يقف عنده؛ والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره؛ فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود؛ والله أعلم).
وقد سبقه إلى نحو هذا المعنى ابنُ عادل فقد قال في تفسيره (اللباب في علوم الكتاب): (فإن قيل: قوله تبارك وتعالى: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [كيف] يناسب أن يقال بعده: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإنَّ الغفران، إنَّما يذكر عند حصول الإثم؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدَّم إلاَّ أنه زالت الحرمة؛ لقيام المعارض، فلمَّا كان تناوله تناولاً لِما حصل فيه المقتضي للحرمة، عبَّر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنَّه رحيم، يعني: لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك.
وثانيها: لعل المضطرَّ يزيد على تناول قدر الحاجة.
وثالثها: أن الله تعالى، لمَّا بيَّن هذه الأحكام، عقَّبها بقوله تعالى (غَفُورٌ) للعصاة، إذا تابوا، (رَحِيمٌ) بالمطيعين المستمرِّين على منهج الحكمة).
قلت: ولعل من معاني هذه الفاصلة الحكيمة أن فيها دفعاً لما قد يستغربه بعض الناس من إباحة ما هو في الأصل محرم، فبين تعالى أنه كما يغفر الذنب في أحيان كثيرة بعد ارتكابه فإنه كذلك قد يغفره قبل ارتكابه بل يجعله مرفوعاً سلفاً ويبيح تلك المسألة، رحمة منه بعباده، فإنه هو الغفور الرحيم لا معقب لحكمه ولا رادَّ لفضله، الحلال ما أحله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، له الحكم وله الأمر وإليه ترجعون.
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[20 - 04 - 08, 02:48 م]ـ
الفائدة الثالثة:
قال ابن القيم في (مدارج السالكين) (1/ 35 - 37) عقب شيء قرّره في ثنايا كلامه على ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة: الله والرب والرحمن:
(مثال ذلك قوله تعالى (والله غني حميد)، (والله عليم حكيم)، (والله قدير والله غفور رحيم)؛ فالغنى صفة كمال، والحمد صفة كمال، واقتران غناه بحمده كمال أيضاً.
وعلمه كمال، وحكمته كمال، واقتران العلم بالحكمة كمال أيضاً.
وقدرته كمال، ومعفرته كمال، واقتران القدرة بالمغفرة كمال؛ وكذلك العفو بعد القدرة (إن الله كان عفواً قديرا) ---- فما كل من قدر عفا، ولا كل من عفا يعفو عن قدرة.
ولا كل من علم يكون حليماً، ولا كل حليم عالم؛ فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة، ومن مُلك إلى حمد، ومن عزة إلى رحمة (وإن ربك لهو العزيز الرحيم).
ومن ههنا كان قول المسيح عليه السلام (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) أحسن من أن يقول: (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم)؛ أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة وهي كمال القدرة، وعن حكمة وهي كمال العلم؛ فمن غفر عن عجز وجهلٍ بجرم الجاني لا يكون قادراً حكيماً عليماً بل لا يكون ذلك إلا عجزاً؛ فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة وعلم تام وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها؛ فهذا أحسن من ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها وقد فاتت، فإنه لو قال: (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم) كان في هذا من الاستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها ما ينزَّه عنه منصب المسيح عليه السلام لا سيما والموقف موقف عظمة وجلال وموقف انتقام ممن جعل لله ولداً واتخذه إلهاً من دونه، فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة.
وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم)، ولم يقل: (فإنك عزيز حكيم) لأن المقام [مقام] استعطاف وتعريض بالدعاء، أي إن تغفر لهم وترحمهم بأن توفقهم للرجوع من الشرك إلى التوحيد ومن المعصية إلى الطاعة، كما في الحديث: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به، وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه واقترن به من فعله وأمره والله الموفق للصواب). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
¥