(يخبر تعالى عن شدة كفرهم وتمردهم وعتوهم وما هم فيه من الضلال وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق، ولهذا أقسموا وقالوا: (لئن إتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون)، فلهذا عقبه بقوله (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين)، أخبر تعالى أنهم أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيباً وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء كما أخبر عنهم في سورة (هود) فقال: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين).
والمناسبة هناك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا به في قولهم (أصلاتك تأمرك) الآية فجاءت الصيحة فأسكتتهم.
وقال تعالى إخباراً عنهم في (سورة الشعراء): (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم)؛ وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة: (فأسقط علينا كسفاً من السماء) الآية، فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة؛ وقد إجتمع عليهم ذلك كله: أصابهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم؛ ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح وفاضت النفوس وخمدت الأجساد فأصبحوا في دارهم جاثمين.
ثم قال تعالى: (كأن لم يغنوا فيها)، أي كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها ---).
(13) من بلاغة القرآن في تذكير الفعل وتأنيثهقال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (1/ 126):
(فإذا قلت: فإذا استوى ذكر التاء وتركها في الفعل المتقدم وفاعله مؤنث غير حقيقي فما الحكمة في اختصاصها في قصة شعيب بالفعل وحذفها في قصة صالح (وأخذ الذين ظلموا الصيحة)؟
قلت: الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي، إذ كانت منتظمة بقوله سبحانه (ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز) [هود 66]، فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن العذاب المذكور في الآية فقوي التذكير، بخلاف قصة شعيب فإنه لم يذكر فيها ذلك؛ هذا جواب السهيلي.
وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله؛ وهو أن الصيحة يراد بها المصدر، بمعنى الصياح، فيحسن فيها التذكير؛ ويراد بها الواحدة من المصدر، فيكون التأنيث أحسن؛ وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ:
أحدها: الرجفة في قوله في الأعراف (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) [الأعراف 78].
الثاني: الظلة بقوله (فأخذهم عذاب يوم الظلة) [الشعراء 189].
الثالث: الصيحة (وأخذ الذين ظلموا الصيحة).
وجمع لهم بين الثلاثة، فإن الرجفة بدأت بهم، فأصحروا إلى الفضاء خوفاً من سقوط الأبنية عليهم، فصهرتهم الشمس بحرها، ورفعت لهم الظلة فأُهْرِعوا إليها يستظلون بها من الشمس، فنزل عليهم منها العذاب وفيه الصيحة؛ فكان ذكر الصيحة مع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصياح، وكان ذكر التاء أحسن؛ والله أعلم---).
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[23 - 04 - 08, 04:53 م]ـ
(14)
التفضيل المبين لقوله تعالى (إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين) على أن يقال: (إن رحمة الله قريبة من المحسنين)
نقل ابن القيم في (بدائع الفوائد) (3/ 541) عن بعض العلماء كلاماً في قوله تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين)، وقال ذلك العالم في ختام ذلك الكلام: (فعلى هذا يكون الأصل في الآية: (إن الله قريب من المحسنين، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين)، فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى.
فقال ابن القيم رحمه الله: (وهذا المسلك مسلك حسن إذا كُسي تعبيراً أحسن من هذا وهو مسلك لطيف المنزع دقيق على الأفهام، وهو من أسرار القرآن.
والذي ينبغي أن يعبر عنه به: أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه، لأن الصفة لا تفارق موصوفها، فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه، بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين.
وقد تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته، ومن أهل سؤاله بإجابته؛ وذكرنا شواهد ذلك، وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده، كما أن العبد قرب من ربه بالإحسان، وأن من تقرب منه شبراً تقرب الله منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً.
فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين، ورحمته قريبة منهم، وقربه يستلزم قرب رحمته.
ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين: قربه وقرب رحمته.
ولو قال: (إن رحمة الله قريبة من المحسنين) لم يدل على قربه تعالى منهم، لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته، والأعم لا يسلتزم الأخص، بخلاف قربه فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته.
فلا تستهن بهذا المسلك، فإن له شأناً، وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب، وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به، وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم فهو مسلك سابع في الآية وهو المختار وهو من أليق ما قيل فيها.
وإن شئت قلت: قربه تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضاً قريب منهم.
وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق، وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد، وهو قربه تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها.
فكان في العدول عن (قريبة) إلى (قريب) من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله تعالى).
¥