قد علم به، قال أحد تلامذة الإمام مالك المصريين: عبد الله بن وهب: سئل مالك عن تخليل أصابع الرجلين في الضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس.
قال ابن وهب: فتركته حتى خَفَّ الناس، ثم قلت له: عندنا في ذلك سنة، قال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد، وعمر بن الحارث، وابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أب عبد الرحمن الحبلي، عن المسور بن شداد القرشي، قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه.
فقال الإمام مالك: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، قال ابن وهب: ثم سمعته بعد ذلك سئل، فأمر بتحليل الأصابع (7).
وبمراعاة هذا الأصل في مذهب مالك، يكون الإمام قد تراجع، تلقائيا، عن بعض فتاواه الاجتهادية التي ظهرت مخالفتها للسنة فيما بعد؛ لقد قال الإمام مالك: إنه لا زكاة في العس (8)، ولكن عند تدوين موسوعات الحديث، ظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في العسل في كل عشرة أزق، زق (9).
وقال الإمام أيضا: إن صيام ستة أيام من شوال مكروه "لأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء" (10)؛ لكن ثبت فيما بعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، فذلك كصيام الدهر" (11).
كان الإمام مالك ينهى تلاميذه أن يأخذوا بالرأي ويتركوا السنة، قال لإسحق بن إبراهيم الحنيني: ينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تتبع الرأي (12).
كما كان يوصي هؤلاء ألا يأخذوا برأيه إلا بعد عرضه على السنة، قال: انظروا فيه، فإنه دين، وما من أحد إلا ومأخوذ من كلامه، ومردود عليه، إلا صاحب هذه الروضة، يعني به: رسول الله صلى الله عليه وسلم (13).
بل لقد قال الإمام وهو يحتضر: لقد وددت الآن: أني أضرب، على كل مسألة قلتها سوطا، ولا ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء زدته في شريعته، أو خالفت فيه ظاهرها (14).
إن حذر الإمام هذا من الرأي يجد سنده في نهي القرآن المجيد عن التقدم بين يدي الله ورسوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذي آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}.
وإضافة إلى الكتاب والسنة والقياس؛ يعتمد الإمام مالك في منهجه الأصول وسائل أخرى، هي:
- الإجماع سواء أكان إجماع علماء المدينة أو إجماع علماء المسلمين عامة.
- عمل أهل المدينة، باعتباره سنة فعلية متواترة، نقلت إليه بجماعة عن جماعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الإمام يقول في هذا، تبعا لشيخه ربيعة الرأي: ألف عن ألف خير من واحد عن واحد.
ـ فتاوى الصحابة، وخاصة فتاوى الخلفاء الراشدين، الذين قال فيهم رسول صلى الله عليه وسلم: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجد" (15).
- سد الذرائع، وهو مبدأ قرآني، فالله تعالى نهى عن سب الأصنام، إذا كان من المحتمل أن يرده عبدة الأصنام الفعل بسب الله عز وجل: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم} (الأنعام: 109)
ومن سد الذرائع نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يدار عليها الخمر؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى ارتكاب المحرمات: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر (16).
- المصالح المرسلة التي ليس لها دليل جزئي ولكن لها دليل عام، من نصوص الشريعة، ومبادئها ومقاصدها، مثل جمع أبي بكر وعمر للقرآن في مصحف، ومثل جمع عثمان المسلمين على مصحف واحد، ومثل فرض الضرائب لإعداد الجيوش وما تحتاجه من عتاد للدفاع عن أرض الإسلام والمسلمين.
1 - إعلام الموقعين ج 1، ص: 45
2 - إعلام الموقعين ج 1، ص: 45
3 - أنظر الآية 60 من سورة التوبة
4 - أنظر الآية 40 من سورة المائدة
5 - موطأ الإمام برواية يحيي بن يحيي الليثي، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ص: 634
6 - مناقب الإمام مالك ـ الزواوي، ص: 38
7 - مناقب الإمام مالك ـ الزواوي ـ ص: 39
8 - موطأ مالك ـرواية يحيى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ص: 277 - 278
9 - جامع الترمذي، ج 1، ص: 196، رقم: 514، وهو صحيح، والزِّقُّ: جلد مدبوغ للكبش أو الجدي، كان العرب يحملون فيه العسل أو السمن.
10 - موطأ مالك، رواية يحيى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ص: 311
11 - صحيح الإمام مسلم، رقم: 1164، ومسند الإمام أحمد ج 5 ص: 417، وص: 419، وصحيح ابن حبان، رقم: 928، قال ابن عبر البر: إن مالكا لم يبلغه هذا الحديث: انظر شرح السنة للإمام اللبغوي، ج 6، ص: 331 - 332.
12 - جامع بيان العلم وفضله، ط دار ابن الجوزي، ص: 1039
13 - الميزان الكبرى ـ الشعراني، ج 1، ص: 59
14 - نفس المصدر
15 - صحيح سنن الترمذي، رقم: 2157، وصحيح
16 - صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم: 6382، وهو الإمام الترمذي، وحسنه.
http://www.almahaja.com/fikh/madhab_maliki244.htm
¥