جاءت دولة الموحدين، ورأت الشريعة مهددة ببعد الفقه عن أصليه:الكتاب، والسنة، ومهددة بالانفصال ما بين الفقه وأصول الفقه، فقرروا رفض كتب الفقه كمدونة سحنون، وواضحة ابن حبيب، وتهذيب البراذعي، وألزموا العلماء والطلبة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وبتأصيل الأحكام والفتاوى حتى يراقب الفقه بالشرع، وبالتالي ينسجم الفقه مع الوحي: قال أبو بكر ابن الجد (1):
لما دخلت على أمير المؤمنين يعقوب (2)، أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس (3)، فقال لي:
يا أبا بكر، أنا أنظر في هذه الآراء المشعَّبة، التي أحدثت في دين الله، أرأيت يا أبا بكر، المسألة فيها أربعة أقوال، أو خمسة، أو أكثر، فأي هذه الأقوال هو الحق؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟
فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي وقطع كلامي:
يا أبا بكر، ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف، أو هذا وأشار إلى سنن أبي داود عن يمينه أو السيف.
فظهر في أيامه ما كان خفي في أيام أبيه وجده؛ ونال عنده طلبة الحديث ما لم ينالوه في أيام أبيه وجده (4).
وقال ابن خلكان (5):
أمر يعقوب المنصور الموحدي برفض الفقه، وأحرق كتب المذهب، وأن الفقهاء لا يفتون إلاّ من الكتاب والسنة النبوية، ولا يقلدون أحداً من الأئمة المجتهدين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم، من حيث استنباط القضايا من الكتاب، والحديث، والإجماع والقياس ...
ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب، وصلوا إلينا وهم على ذلك الطريق، مثل أبي الخطاب ابن دحية (6)، وأخيه (7)، أبي عمرو (8) ...
هذه السياسة الموحدية التجديدية أنتجت في المغرب والأندلس توفير وسائل رقابة الفقه بالوحي، فظهرت العناية بكتب الأحكام التي تجمع أحاديث الأحكام من أمهات كتب الحديث، لتضعها بيد الفقهاء، حتى يقعدوا الأحكام من خلال ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيداً عن منهج الفقهاء المقلدة الذين لا يستندون إلاّ إلى أقوال الفقهاء قبلهم دون دليل، وقد يكون هؤلاء قد صدروا عن خطأ، أو جهل، أو تقصير، كما هي حالة الإنسان عموماً، جل من لا يخطئ، المعصوم من عصمه الله.
وهكذا ظهر في إشبيلية أبو محمد بن عبد الحق (9) الإشبيلي في أحكامه الكبرى والوسطى والصغرى تجمع أحاديث الأحكام في العبادات والمعاملات مع عزو الحديث إلى مصدره، ومع الحكم عليه بالصحة أوالحسن؛ ليكون الفقيه على ثقة من اتصال عمله بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وهكذا أيضاً ظهر ابن القطان (10)، الكتامي الفاسي فاستدرك على أبي محمد ابن عبد الحق الإشبيلي، بعض الأوهام التي وقع فيها في أحكامه الوسطى، فكان كتاب (الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام) وبالتالي كان من تمام الثقة في ارتباط الفقه بأصوله من الكتاب والسنة.
وجاء المرينيون وأعادوا الرسمية للمذهب المالكي، وتبنوا منهج التقليد ضد ما فعله الموحدون؛ ولكن كان هناك علماء محدثون فقهاء، منهم أبو عنان المريني نفسه، ومنهم العلامة محمد بن إبراهيم البعدري (11) الإبِليِّ الفاسي، مستشار المجلس الخاص لأبي عنان، ورئيس المجلس، الذي رأى تطرف الفقهاء أتباع منهج (التقليد)، فقال عنهم: "لولا انقطاع الوحي لنزل فينا أكثر مما نزل في بني اسرائيل الذين حرفوا الكلم عن مواضعه" (12). وبأبي عنان وبالأبلي، وجد لدى المرينيين تشبث بالمنهج النقدي في المذهب المالكي، الذي سبق أن تبناه اللخمي (13) في كتابه (التبصرة)؛ وهذا ما يفسر أن عدداً من ملوك بني مرين كانوا يحبِّسون (التبصرة) على المراكز العلمية الكبرى كفاس، وتازة (14).
1 - هو محمد بن عبد الله بن يحيى بن الجد الفهري من إشبيلية فقيه حافظ للمذهب المالكي، كان يمارس الشورى والفتوى مع القاضي ابن العربي وأمثاله، كان خطيباً عند المرابطين والموحدين، كان مقرباً من يوسف بن عبد المؤمن، ومن ولده يعقوب المنصور بمراكش، لم يخلف كتباً، وتوفي سنة 586هـ بإشبيلية (ظ: الذيل والتكملة 323/ 6).
2 - هو يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي توفي سنة 595هـ، وقبره مشهور بالرباط بجوار صومعة حسان.
¥