تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كما ذهب جمهور العلماء إلى العمل بسد الذرائع فيما يفضي إلى الحرام غالباً، وإن كان لا يُقطع بإفضائه إليه؛ استشهاداً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالمرأة الأجنبية، وبنهيه عن الدخول على المغيبات، وعن سفر المرأة بلا محرم، فهذه الصورة لا تفضي إلى الحرام والمفسدة قطعاً، وإنما تفضي إلى الحرام في الغالب، فاعتُبِر، وإن كانت أحياناً لا تقع بها فتنة ولا فاحشة.

ثم وقع خلافهم فيما دون ذلك مما تردد فيه الأمر: هل يفضي إلى الحرام أم لا؟ أو تساوى فيه الاحتمالان؟ فمنهم من يعمل القاعدة فيه، ومنهم من لا يعملها.

ومهما يكن؛ فهو من مورد الاجتهاد الذي تختلف فيه المدارك والأفهام، وتتباين فيه الأقوال، فلا تثريب ولا تشديد ما دام أنَّ المجتهد قد اجتهد وسعه، وأعمل فكره، وراعى المقاصد، ووازن بين المصالح والمفاسد.

وأما الذرائع الضعيفة والتهمة البعيدة، فلا ينبغي أن تُعمل فيها القاعدة فتُسدُّ؛ لأنَّ العبرة بالغالب، وهي في الغالب لا تُفضي إلى المنكر، فمنعها ضربٌ من التضييق، وإفراطٌ في أعمال (سد الذرائع).

قال القرافي: (كما نقله عنه الزركشي في البحر المحيط 8/ 90): "فإنَّ من الذرائع ما هو معتبر إجماعاً، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين .. وسب الأصنام عند من يُعلم من حاله أنه يسب الله، ومنها ما هو ملغي إجماعاً؛ كزراعة العنب؛ فإنها لا تمنع خشية الخمر، وإن كان وسيلة إلى الحرام، ومنها ما هو مختلف فيه؛ كبيوع الآجال، فنحن ـ أي المالكية ـ نعتبر الذريعة فيها ويخالفنا غيرنا، فحاصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها خاصة ـ أي بمذهب المالكية ـ" اهـ.

إنَّ الذريعة التي يجب أن تُسد هي الخطوة القريبة التي تفضي إلى المنكر يقيناً أو في غلبة الظن، أما الخطوات البعيدة التي بينها وبين الحرام خطوات أدنى فتحريمها بحجة سد الذرائع هي نفسها ذريعة إلى التشديد والتضييق يجب أن تُسد؛ فمثلاً: يحرم الإسلام من الاختلاط ما هو مظنة المزاحمة والخلوة؛ لكن لا يجوز بحال أن نحرِّم على الناس أن يمشوا جميعاً ـ رجالاً ونساء ـ في طريق واحد، أو نحرم عليهم مجرد الاجتماع في مكان واحد يحويهم جميعاً!

والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينع النساء من المرور بطريق يمر به الرجال، وإنما أمرهن بالبعد عن مزاحمتهم؛ منعاً من تماس الأجساد، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ لما خرج الرجال والنساء من مسجده جميعاً: "لا تُحقِقن الطريق، ولكن عليكن بحافة الطريق". فهو ـ كما ترى ـ تجنب للمزاحمة والاختلاط الذي يفضي إلى الفتنة، لا تجنبٌ لمشي الرجال والنساء في طريق واحد.

لئن اختلف أهل العلم في درجة الأخذ بقاعدة (سد الذرائع) والتوسع في إعمالها، فلا يصح أن نجعله من الاختلاف الذي يعود على أصل القاعدة بالنقض والبطلان، فقد اختلفوا في بعض صور القياس وضروبه، ولم يكن ذلك الاختلاف مبطلاً لحجية القياس، ولا ناقضاً لأصله.

إنما ذلك الاختلاف اختلافٌ في التطبيق وإعمال القاعدة وتحقيق مناطها، لا في أصل العمل بها.

إنَّ الذي نراه هو أنَّ المبالغة في سد الذرائع بحجة الغيرة على الأعراض لا يخدم الغرض نفسه، وقد يخدمه حيناً من الدهر؛ لكنه لا يلبث أن يكون عوناً ودافعاً للناس للتساهل في تقحم بعض الذرائع التي هي ـ حقيقة ـ فتنة واقعة، أو تفضي إلى الحرام، كردة فعل منهم على ذلك التشدد.

إنَّ تحريم الذرائع التي تفضي إلى الحرام قطعاً أو غالباً هو من قبيل تحريم الوسائل، لا من قبيل تحريم المقاصد، ولذا فما حرم من هذا القبيل فإنه يباح عند الحاجة ولو لم تكن ثمة ضرورة، ومن شواهد ذلك في كتب أهل العلم:

1ـ قولهم: "ما كان منهياً عنه للذريعة فإنه يُفعل لأجل المصلحة الراجحة" (ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 22/ 298، 23/ 214،186، وزاد المعاد 2/ 242، 3/ 488،88 إعلام الموقعين 2/ 142).

2ـ قولهم: "يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد". ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص293.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير