ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله تعالى فيما بعد في تخريج كلام الأئمة ككلام الإمام الشافعي والإمام أحمد ونحوهما قالوا إنهم يريدون كراهة التحريم؛ لأن هذا ليس مكروها بمعنى أنه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله؛ لكنه يدخل في قواعد الشرع في أنه في تلك المسألة أنه يعاقب فاعله؛ لكنهم لم ينصّوا على التحريم تورعا وخوفا من الله جل وعلا، وهذا من الأدب الرّفيع بل من امتثال الآية والخوف من الكذب على الله جل وعلا.
وقد قال سبحانه أيضا بعد صدر الآية ?آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? [يونس:59 - 60]، قال أحد العلماء في تفسير هذه الآية: كفى بهذه الآية جازرة جزرا بليغا عن التجوّز فيما يسأل من الأحكام، وكفى بها باعثة على وجوب الاحتياط للأحكام، وأن لا يقول أحد في شيء هذا جائز أو غير جائز إلا بعد إتقان وإيقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفترٍ على الله عز وجل، وهذا من شديد الوعيد.
?آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ?، وهذا يوجب الخوف من الدخول في الفتيا في كل ما يسأل عنه الناس.
وهناك غير هذه من الآيات.
ومن الأحاديث ما ذكرنا لك من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ هذا الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُور العُلماء» الحديث.
وفيه أيضا ما رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داوود في السنن وابن ماجة أيضا في السنن والدارمي وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال «من أُفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه»، نسأل الله العافية والسلامة.
ولقد أحسن الشعبي رحمه الله حين أجاب تلميذه داوود، قال داوود: سألت الشعبي: كيف تصنعون إذا سئلتم؟ والشعبي من كبار التابعين ممن أدرك جل الصحابة، فيقول: كيف تصنعون إذا سُئلتم؟ فقال له وهو يربي تلميذه قال له: على الخبير وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه: أفتهم. فلا يزال حتى يرجع الأمر إلى الأول.
وكان عدد من الصحابة يجلسون في المسجد فيأتي السائل فيسأل الأول فيقول له: اسأل فلانا، فيذهب إلى الصحابي الثاني حتى يذهب إلى سبعة أو إلى عشرة، ثم يعود إلى الأول كل واحد يحيل إلى أخيه.
واليوم أصبحت الفتوى مسخرة، أن هذا يفتي والهاتف لا يسكت، ويتكلم بغير إيقان ولا إتقان، وربما أفتى وهو يأكل وربما أفتى وهو ينظر إلى شيء أو وهو يكتب، وهذا أمر في الحقيقة يخشى على المرء فيه أن يعاقبه الله جل وعلا بذهاب نور الإيمان في صدره.
قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى: لقد أدركتُ في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم أحد يُحدث بحديث إلا ودّ أن أخاه كفا الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلى ودّ أن أخاه كفاه الفتيا.
وتلك كانت سنة السلف رحمهم الله تعالى في هذه الأصول العظيمة.
لهذا ينبغي لنا حينئذ أن نعلم أن الكتاب والسنة وأن هدي السلف الصالح وما كان عليه أئمتنا رحمهم الله تعالى هو التشديد في أمر الفتوى، وأن المرء يجب عليه أن يربأ بنفسه أن يعرّض دينه وأن يعرّض حسناته للذهاب بذنب يحدثه في الأمة أو ينقل، وكثير اليوم ما نسمع بأنّه يقول السائل: أنا سألت فلان فأجابني بكذا وسألت الشيخ فلان فأجابني بكذا، وإذا المفتون بدل أن يكونوا كذا وكذا من العدد إذا بهم مئات في عرض البلاد وطولها، هذا لاشك أنه يخالف الدين ويخالف الورع، فالتعليم والبحث هذا شيء، وأما الفتوى فإن المرء لا يسوغ له أن يفتي في كل ما يسأل، أما إذا تعينت عليه الفتوى فهذا له بحث يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
هناك فروق مهمة ينبغي إيضاحها، هذا الموضوع ينبغي أن يكون علميا ولغته لغة علمية؛ لأنه ليس للترغيب ولا للترهيب فقط، ولكنه علم فيه الترغيب والترهيب في هذا الأمر الجلل الخطِر.
من الفروق المهمة في هذا الأمر:
الفرق بين الفتوى والقضاء
الفتوى باب، والقضاء باب آخر، الفرق بينهما:
أن القضاء يكون بين متخاصمين في إلزام أحدهما بالحق له أو لصاحبه، والذي يحكم بينهما هو القاضي الذي نصبه ولي الأمر ليقضي بين الناس فيما اختلفوا فيه وتشاجروا عليه.
¥