لأنهما لا يتنافيان، وإنما يحدث التنافي لو توجه النفي والإثبات على جهة واحدة كقولنا: هو أسد بالحقيقة، ليس أسداً بالحقيقة.
الوجه الثالث: أن المستعير للفظ المجاز يؤول كلامه ويصرفه عن الظاهر، وينصب قرينة تدل على أن الظاهر ليس بمراد له، بخلاف الكاذب فإنه يدعي الظاهر، ويريده ويصرف همته على إثباته، مع كونه غير ثابت في نفس الأمر.
ثم إن المخاطب بالمجاز المتفطن العارف بأساليب الكلام، ووجوه اعتباراته إذا خوطب بالمجاز محتفاً بقرينة حالية أو مقالية، فهم المعنى المجازي، ولا يتبادر ذهنه للمعنى الحقيقي أصلاً.
الحجة الثانية: قالوا: الخطاب بالمجاز طريق إلى الإخلال بالتفاهم لا حتمال خفاء القرينة.
قال الإمام الشوكاني: "المجاز واقع في لغة العرب عند جمهور أهل العلم وخالف في ذلك أبو إسحاق الإسفراييني وخلافه هذا يدل أبلغ دلالة على عدم اطلاعه على لغة العرب. وينادي بأعلى صوت، بأن سبب هذا الخلاف تفريطه في الاطلاع على ما ينبغي الاطلاع عليه من هذه اللغة الشريفة، وما اشتملت عليه من الحقائق والمجازات التي لا تخفى على من له أدنى معرفة بها، وقد استدل بما هو أوهن من خيوط العنكبوت فقال: لو كان المجاز واقعاً في لغة العرب للزم الإخلال بالتفاهم إذ قد تخفى القرينة.
وهذا التعليل عليل فإن تجويز خفاء القرينة أخفى من السها " انتهى.
ولا شك أن هذا التعليل الذي علل به نفاة المجاز لا معنى له، لأن اللفظ إما أن تحتف به قرائن حاليةأو مقالية، فيحمل على مادلت عليه القرائن، وإما أن يخلو منها فالأصل بقاء اللفظ على الحقيقة فلا خفاء في الحالين.
الحجة الثالثة: قالوا: المتكلم لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة وعجز عنها، فيستعير من المجازات ما يبلغ مراده، وهذا مستحيل في حق الله تعالى.
وللرد على هذه الشبهة يقول المثبتون:
أولاً: قال عبد العزيز البخاري -رحمه الله- في كشف الأسرار شرح أصول البزدوي: "والمجاز طريق مطلق"، أي طريق جاز سلوكه من غير ضرورة، فإنا نجد الفصيح من أهل اللغة القادر على التعبير عن مقصوده بالحقيقة يعدل إلى التعبير عنه بالمجاز لا لحاجة ولا لضرورة.
ثانيا: أن في المجاز من حسن التصوير، وبديع الأسلوب، وجمال العبارة وتشويق النفوس، وشحذ الأذهان ما ليس في الحقيقة.
قال العلامة عبد العزيز البخاري في شرح أصول البزدوي أيضاً: "وقد ظهر استحسان الناس للمجازات فوق ما ظهر من استحسانهم للحقائق، فتبين بهذا أن قولهم هو ضروري فاسد، والدليل عليه أن القرآن في أعلى رتب الفصاحة، وأرفع درج البلاغة، والمجاز موجود فيه، وعد من غريب بدائعه وعجيب بلاغته قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، وإن لم يكن للذل جناح ..... إلخ.
ثالثاً: أن هناك أسباباً داعية إلى العدول عن الحقيقة إلى المجاز منها: التعظيم كقوله: سلام على المجلس العالي.
ومنها: التحقير لذكر الحقيقة، كما في قوله تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [المائدة:6] والغائط هو المكان المنخفض من الأرض، واستعير هذا اللفظ للخارج من الإنسان مجازاً ترفعاً عن ذكر القبيح.
ومنها: المبالغة في بيان العبارة، كما في قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا [مريم:4]، المعنى شاب شعر رأسه بتحوله من السواد إلى البياض، فجاء هذا المعنى في أبلغ عبارة حيث شبه بياض الشعر باشتعال النار، وحذف املضاف وأبقى المضاف إليه، وهذا مجاز بالحذف، والتقدير: واشتعل شعر الرأس شيباً، إلى غير ذلك من المعاني التي أوضحها البيانيون والتي يطول المقام بذكرها.
والحجة الرابعة: قالوا: اللفظ في سياقه حقيقة ولا يسمى مجازاً، فلفظ الأسد -مثلاً- في قوله: رأيت أسداً يحمل السيف ويقاتل الكفار، حقيقة في الرجل الشجاع، والعرب لم تجتمع وتقرر أن هذا اللفظ وضع أولاً لكذا، ثم استخدم مجازاً في كذا، فيكون هذا التقسيم حادثاً لا دليل عليه.
وللرد على هذه الحجة يقول الآخرون:
¥