ـ[محمد العبادي]ــــــــ[23 - 04 - 08, 03:43 م]ـ
- قصد المتكلم ودلالة السياق وتفسير القراّن الكريم
إن المفسر لكتاب الله عز وجل لا يمكنه أن يفسره بمجرد علمه بالألفاظ وحدها، بل لا بد أن ينظر بدقة وإمعان في السياق القراّني؛ حتى يعرف قصد المتكلم ..
وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى هذه القاعدة ونصوا عليها، وطبقوها عمليًا في تفسيراتهم، وقد سماها العلماء ب (دلالة السياق)، و نص بعض العلماء على إجماع العلماء على هذه القاعدة:
- قال الزركشي رحمه الله في البحر المحيط:
(دلالة السياق أنكرها بعضهم, ومن جهل شيئا أنكره، وقال بعضهم: إنها متفق عليها في مجاري كلام الله تعالى) (4).
- وقال الزركشي أيضًا:
(قال الشيخ عز الدين في كتاب الإمام": السياق يرشد إلى تبيين المجملات, وترجيح المحتملات, وتقرير الواضحات. وكل ذلك بعرف الاستعمال. فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا, وإن كانت ذما بالوضع. وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما وإن كانت مدحا بالوضع, كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [سورة الدخان:44]) .... (5).
- وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من أسباب الخطأ في التفسير النظر إلى الألفاظ وحدها دون النظر إلى قصد المتكلم فقال:
(قوم فسروا القراّن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقراّن والمنزل عليه والمخاطب به). (6).
ففي النص الأول نجد الزركشي قد بين أن إنكار دلالة السياق إنما هو من الجهل! فهذه الدلالة قد نص بعض العلماء على إجماع العلماء عليها ..
وفي النص الثاني نجد أن العز بن عبد السلام يوضح أن السياق يوضح المقصود من النص، حتى وإن بدا النص في ألفاظه المجردة عن السياق له مقصود اّخر ..
وفي النص الثالث وضح لنا ابن تيمية كيف أن قص النظر على اللفظ وحده سبب للوقوع في الخطأ في التفسير ..
أمثلة على تطبيق العلماء لهذه الدلالة في تفسيراتهم:
1 – رجح الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (7) تفسير محمد بن جعفر بن الزبير رحمه الله الذي فسرها بقوله: (قل إن كنتم تحبون الله"، أي: إن كان هذا من قولكم - يعني: في عيسى - حبًّا لله وتعظيمًا له =،"فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، أي: ما مضى من كفركم ="والله غفور رحيم") (8).
وعلل الإمام الطبري ترجيحه هذا بدلالة السياق، حيث قال:
(وأولى القولين بتأويل الآية، قولُ محمد بن جعفر بن الزبير. لأنه لم يجر لغير وفد نجرانَ في هذه السورة ولا قبل هذه الآية، ذكرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله، ولا أنهم يعظمونه، فيكون قوله."إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" جوابًا لقولهم، على ما قاله الحسن.
وأمّا ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه، فلا خبر به عندنا يصحّ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال. إلا أن يكون الحسن أرادَ بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفدَ نَجران من النصارى، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه.
فإذْ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا، ولا في الآية دليلٌ على ما وصفنا، فأولى الأمور بنا أن نُلحق تأويله بالذي عليه الدّلالة من آي السورة، وذلك هو ما وصفنا. لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها، خبرٌ عنهم، واحتجاجٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على بُطول قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضًا مصروفةَ المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها.) (9).
2 – رجح الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (10) تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل رحمه الله بأن الاّية من محاورة نوح لقومه وعلل الإمام القرطبي هذا الترجيح بقوله:
(لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه؛ فالخطاب منهم ولهم) (11).
فنجد هنا أن ترجيح الإمام القرطبي رحمه الله اعتمد على دلالة السياق وعلى قصد المتكلم ..
3 – رجح الإمام ابن كثير رحمه الله أن المراد بقوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (12) أنه لا يقدر أحد فعل شيء في هذا اليوم إلا الله عز وجل، ورجح هذا القول على قول من قال إن المراد أنه القادر على إقامة هذا اليوم، حتى وإن كان المعنى الثاني صحيحًا، إلا أن السياق يدل على المعنى الأول:
- يقول رحمه الله: (قال الضحاك عن ابن عباس: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يقول: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما، كملكهم في الدنيا. قال: ويوم الدين يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، إلا من عفا عنه. وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف، وهو ظاهر.
وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى تفسير {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أنه القادر على إقامته، ثم شرع يضعفه.
والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم، وأن كلا من القائلين بهذا وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر، ولا ينكره، ولكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا) (13) ..
- والأمثلة على ذلك كثيرة ومن أراد الاستزادة فليراجع الرسالة القيمة العظيمة للدكتور حسين الحربي وفقه الله تعالى وهي بعنوان (قواعد الترجيح عند المفسرين) ومنها الترجيح بالسياق من ص121 وما بعدها ..
¥