إن كل شيء في موضع واحد يقال: هو قاصر على هذا الموضع، ولكن لا يمنع ذلك من (أهلية) تحققه في غير ذاك الموضع في زمن آخر، لذلك فتفسير العلة القاصرة تفسير تطابق بأنها: ما كانت العلة هي ذات محل الحكم هو تحكم وزيادة على المعنى من قصور العلة؛ ذلك أنه أدرج زيادة على اقتصار العلة على موضعها، وهذه الزيادة هي (عدم أهلية) تلك العلة لأن تكون في غير ذلك الموضع. تأمل فإنه محور فهم تلك المسألة. وسيرد في كلام أئمة الفقه والأصول ما فيه تصريح بذلك، مما يؤكد قصور الطلب والدراسة لدى بعض المحاولين لحل تلك الفوائد من خلال التفسير المغلوط السابق للعلة القاصرة. والله سبحانه ولي التوفيق.
*****
إننا إن نظرنا في كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع نجد أنه يثبت تعدية العلة القاصرة، بل جعل تعديتها فائدة للتعليل بها، فعاملها ـ في التعدية ـ معاملة العلل الأخرى التي لم توصف بالقصور.
قال رحمه الله تعالى:
(ثم لغير المتعدية فائدتان:
إحداهما / أن تعرف أن الحكم مقصور عليها، فلا تطمع في القياس
والثانية / أنه ربما حدث ما يشارك الأصل في العلة فيلحق به، و أجابوا عن الفلوس بأن العلة عندنا كون الذهب و الفضة جنس الأثمان غالبا، و إن لم تكن أثمانا، و الله سبحانه أعلم) *28
حين ننظر إلى النقل السابق عن أهل الأصوليين فيما يسمى بالعلة القاصرة، قد نظن في أول الأمر أن ثمة تناقض بين تقريراتهم، فبينما ينفي علماء الأصول المنقول عنهم تعدية العلة القاصرة، نجد الإمام النووي رحمه الله تعالى يثبت تعدية العلة القاصرة، رغم كونه يثبت لها لفظ (قاصرة)، فما وجه ذلك؟
وجه ذلك أننا إذا نظرنا إلى هذه الصفة في تلك العلة ـ وهي كونها لا تتعدى محل النص ـ نجد أنها تتحقق في ثلاثة أنواع من العلل، كلها لا تتعدى محل النص، إلا أن لكل علة منها سبب في قصورها على محلها يختلف عن سبب قصور العلة الأخرى، و إليك بيان ذلك.
*****
قصور العلة على محلها يكون لأحد أسباب ثلاثة:
الأول / كون العلة هي نفس محل الحكم، كقولنا يحرم الربا في البر لكونه برا، و يحرم الربا في الخمر لكونه خمرا.
الثاني / كون العلة هي جزء محل الحكم، كقولنا: يحرم الخمر لكونه معتصرا من العنب.
الثالث / كون العلة لم يعلم توفرها إلا في محل الحكم، كقولنا: يحرم الربا في الذهب و الفضة لكونهما أثمانا للأشياء، و لا نعلم أثمانا غيرهما. * 29
فإننا إذا نظرنا إلى كلام الأصوليين في عدم تعدية العلة القاصرة نجد أنه ينطبق على النوعين الأولين من العلل، و ذلك لأنه يعلم بالبديهة أن العلة التي هي نفس محل النص لا يمكن لها أن تتعدى، فالخمر إذا قلنا إنه يحرم لكونه خمرا، فإن كل ما هو خمر فهو حرام، و كل ما ليس بخمر فليس بحرام، فلن تخرج العلة عن المحل قط، لأن العلة هي نفس المحل، وهذا مفهوم عقلا و لا يحتاج إلى استدلال، و كذلك التعليل بجزء المحل.
و أما كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى فإنه ينطبق على النوع الثالث من العلل القاصرة، و التي هي سبب قصورها هو مجرد عدم توفر العلة في غير محل النص، و لا يكون من صفة ذات العلة أنها لا تصلح لغير محل النص، بل هي في نفسها صالحة للتحقق في غير محل النص، إلا أنها لم تتحقق في غيره، فقيل لها قاصرة لذلك، ولا ينفي ذلك أنها (مؤهلة) لأن تتعدى حتى لو لم تكن متعدية زمان تسميتها بالقاصرة. لذلك كان من فائدتها ـ كما ذكر النووي رضي الله عنه ـ أنها تتعدى. لذا كان في التعليل بالمحل ضياع لفائدة تلك العلة، لأننا حينئذ نكون قد نفينا (أهلية تلك العلة) وجعلنا (أهليتها) قاصرة على المحل الحاضر، في حين لو عللنا بها ـ حتى مع قصورها ـ فإن ظهورها كعلة ولزوم (أهلية) التعدي بها يفيد إمكان تعديتها إلى غير ذلك المحل. فأين تفسير فضيلة المفتي من ذلك؟
يؤيد ما ذكرناه قول ابن النجار:
(وجوز قوم من العلل القاصرة كون العلة محل الحكم أو جزء محله) *30
و الشاهد إنما هو في قوله (من العلل القاصرة) مما يدلك على تعدد أنواعها.
ويؤيده أيضا قول الإمام النووي رحمه الله تعالى:
¥