لقد قامت الأدلة القاطعة على كون الشريعة ذات مقاصد بُنيتْ عليها، ويمكن إثبات ذلك بطريقين: الخبر والنقل، والنظر والعقل.
أولاً: الخبر والنقل؛ وهو نوعان:
أولهما عام؛ مثل قول رسول الله r: " لا ضرر ولا ضرار" (7)، وفيه نفيُ الضرر والإضرار في أحكام الشرع، فدلّ على مقصد من مقاصد الشريعة في الأحكام (8).
والقاعدة الفقهية الكبرى المتفق عليها: (الأمور بمقاصدها)، وفيها إثبات الأحكام الدينية بناءً على النية والقصد والغاية.
والثاني خاص؛ يتعلق بمسائل ذُكِر لها مقاصد، ومنها: تحريم الخمرة؛ لإِفسادها للعقل؛ ومن أدلة ذلك قوله r : " كل مسكر خمر، وكلُّ مسكر حرام" (9).
قال ابن القيم: (القرآن وسنة رسول الله r مملوءان من تعليل الأحكام بالحِكَم والمصالح وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحِكَم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة) (10).
والثاني: النظر والعقل؛ وله وجهان:
الأولى: الاستقراء؛ قال البيضاوي: (إن الاستقراء دَلّ على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد) (11)، وقال ابن القيم: (إن الشريعة مبناها على .... )
الثانية: الدلالة العقلية، ومنها أن يقال (12): الشارعُ في تشريعه؛ إما أن يكون قد راعى مقاصد عند التشريع أَوْ لا. والثاني باطل؛ لأنه إما لعدم العلم السابق للتشريع، أو لعدم الحكمة عند التشريع، أو لمانع منع الشارع من مراعاة المقاصد، وكلها باطلة فاسدة بالإجماع؛ فتعيَّن الأول ـ وهو أن الشارع قد راعى المقاصد عند التشريع ـ ولا بد.
طرق معرفة المقاصد
ثَبَت أن ثَمَّة مقاصد للشريعة؛ لكن اختُلف في الطُّرق المُوصِلة إليها، والمُوْقِفة على مفرداتها، إلا أن جِمَاع ذلك طريقان: الاستقراء، والأدلة الشرعية.
وفيما يأتي بيان موجز لكل منهما:
أولاً: الاستقراء
تعريف الاستقراء: وهو تَتَبُّع جُزئيات الشيء لإثبات حُكْم كُلّي.
أقسام الاستقراء؛ يُقَسَّم إلى قسمين:
- الأول: استقراء تام، وهو: تتبع جميع جزئيات الشيء لإثبات حكم كُلّي، وهذا حجة عند جماهير العلماء وأكثرهم، وإن كان يندر حدوث الاستقراء التام إلا ما كان في النصوص الشرعية المحددة (القرآن الكريم).
- والثاني: استقراء ناقص، وهو: تتبع جُمْلَةٍ من جزئيات الشيء لإثبات حكم كُلِّي، وهذا مختلف في حُجّيته، ولكنه من الناحية الأكاديمية العلمية البحثية هو المطلوب؛ لتعذر الاستقراء التام وإمكانية الاستقراء الناقص.
أنواع الاستقراء في علم المقاصد؛ للاستقراء نوعان:
- الأول: استقراء الأحكام التي عُرفتْ عِلَلها، لأن هفي استقراء العلل الكثيرة المتماثلة يمكن أن نستخلص حكمة واحدة فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يقول علماء المنطق أنه يمكن تحصيل مفهوم كلي من خلال استقراء الجزئيات (13).
مثال ذلك: قول رسول الله r : " المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يَذَر" (14).
والعِلَّة في هذا النهي: هو ما في ذلك من الوحشة التي تنشأ عن السعي في حرمان الآخر من منفعة مبتغاة، فيُستخلص من ذلك مقصدٌ شرعي: هو دوام الأخوة بين المسلمين.
وكذلك نهي رسول الله r عن الغرر، ومن معاني الغرر: الجهالة، والجهالة قد تفضي إلى نزاع، والقاعدة الفقهية تقول: (كل جهالة تفضي إلى نزاع؛ مفسدةٌ للعقد)، ومقصد التشريع في المعاملات المالية: سلامة صدور المسلمين على بعضهم؛ خالية من الحقد أو الكراهية، ولذا تم بناء أحكام المعاملات المالية على البيان والوضوح، لا على التدليس والغش والغموض.
- والثاني: استقراءُ أدلةِ أحكام اشتركت في علةٍ. ومثاله: أحاديث النهي عن: (الاحتكار) و (تَلقّي الركبان) و (بيع الطعام قبل قبضه)، حيث تشترك في علة واحدة لمستقرئها.
فبهذا الاستقراء يحصل العلم بأن رواج الطعام، وتيسير تناوله وتداوه، وعدم ارتفاع سعره؛ بتقليل حلقات السلسلة بين المنتِج والمستهلك: مقصد من مقاصد الشريعة.
ثانياً: الأدلة الشرعية:
تعريف الأدلة، هي جمع دليل، وهو ما يمكن التّوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
أقسام الأدلة: من حيث الاحتجاج بها كطريق لمعرفة المقاصد، تقسم إلى قسمين:
¥