والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله تعالى: [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] (النساء: 83). وقوله سبحانه: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: 115).
ورابع هذه الأدلة: القياس، وهو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.
وهو حجة شرعية على الأحكام العملية عند جمهور الفقهاء، كما أنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نُصَّ على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاس بها، ويُحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعاً، ويسع المكلف اتباعه والعمل به (18) والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (النساء: 59).
ولا يحسن القياس إلا فقيه النفس، أصولي الطبع، وما لم يكن كذلك فإنه تغلبه الغفلة، ويزلُّ من أول وهلة.
2 – الضابط الثاني: تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء:
إن الفتوى إذا تعلقت بموضوع الاستفتاء بلغت بالمستفتي حاجته، وحصل منها على مراده. فإذا خرجت عن ذلك فإنها لا تسد له حاجة، ولا تحل له مشكلة، ولا تنقذه من معضلة، ولم يشرع الإفتاء إلا للإجابة على التساؤلات، وحل ما يعرض للإنسان من مشكلات.
غير أن المفتي إذا توقع من السائل استغراباً للحكم، فله أن يمهد له بمقدمة حتى يسلك الحكم الشرعي إلى قلبه، فيتقبله بقبول حسن؛ ويدل على ذلك قصة نسخ القبلة؛ فإنها لما كانت شديدة على النفوس جداً وطَّأ الله سبحانه وتعالى قبلها عدة موطئات، منها: ذكر النسخ، ومنها: أنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ومنها: أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم؛ فعموم قدرته وعلمه صالح لهذا الأمر الثاني كما كان صالحاً للأول (19)
ويجوز أن تكون الفتوى أشمل من موضوع الاستفتاء بحيث يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه لفائدة يرى أنها تفيد السائل؛ فقد سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر، فقالوا له: «إنَّا نركب البحر وليس معنا ما نتوضأ به؛ أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته» [رواه أحمد (5591) والترمذي (69) وصححه الألباني]. فقد أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميتة البحر رغم أنهم لم يسألوا عنها لما في ذلك من فائدة لهم في هذا البيان.
وقد بوَّب البخاري لذلك في صحيحه، فقال: «باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه» ثم ساق من الحديث ما يدل على ذلك. ويجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر يكون أنفع للسائل مما سأل عنه، أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل، أو لكون مدارك السائل لا تقوى على فهم ذلك الموضوع الجلل، يدل على ذلك قول الله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] (البقرة: 189).
فقد سألوه عن سبب ظهور الهلال خفياً ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان، فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر عبادتهم وهو الحج.
فإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد أجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك فقد أجيبوا عن عين ما سألوا عنه، ولفظ سؤالهم محتمل؛ فإنهم قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم ثم يأخذ في النقص؟ (20)
¥