تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولا ريب أنّ منع تدوين الحديث كان من أخطر المعاول الهدّامة في صرح التراث الثقافي للأمّة، ذلك لأنّه يوجّه إلى ثاني أعمدة التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، ولأنّه تسبّب في بعض الآثار السيّئة التي تركت بصماتها على رحاب الحديث الشريف إلى اليوم، ومنها ضياع بعض سنّة الرسول صلّى الله عليه و آله وتراثه الفكري الوضّاء، وتهيئة الفرصة والأجواء المناسبة للوضع والاختلاق والتشكيك بالحديث.

والوقوف على أسباب هذا الإجراء الخطير يستدعي دراسة تاريخ الحديث النبوي الشريف من حيث تدوينه وطرق تحمّله ودرايته وسائر العلوم المتّصلة به، وهو أمر يخرج بنا عن أصل البحث، ويتعذّر في مثل هذه الوقفة الموجزة، وقد توفّرت مزيد من الدراسات على بحثه في ضوء المنهج العلمي القويم وميزان النقد النزيه [31].

واستمرّ واقع الحال على المنع إلى رأس المائة الهجرية الأولى حيث رفع الحظر عن تدوين الحديث وروايته في زمان عمر بن عبدالعزيز ت 101 هـ،

لاختلاف اللفظ بسبب وهم الرواة أو نسيانهم، ولهذا أجاز علماء الحديث روايته بالمعنى ضمن شروط خاصّة، فكان ذلك مبرّراً للتشكيك في حجيّة الحديث الشريف لإثبات قواعد النحو العربي، دفع النحاة المتقدّمين إلى الإنصراف للرواية عن الأعراب ولما يزوَّدهم به رواة الأشعار، إنصرافاً استغرق كلّ جهودهم ولم يبق منهم لرواية الحديث ودراسته أدنى بقية.

وقد هيّأت سلطة الخلافة بعد الرسول صلّى الله عليه و آله الأرضية لذلك الإنصراف، فبعد منعها تدوين الحديث وروايته، دعت إلى تعلّم الشعر وجمعه والاهتمام به، فقد كتب عمر بن الخطّاب رسالة إلى أبي موسى الأشعري عامله على البصرة طلب فيها أن يأمر مَن قبله مِن الناس برواية الشعر لأنّه يدلّ على معالي الأخلاق [32]، وكتب اُخرى إلى المغيرة بن شعبة عامله على الكوفة وطلب فيها أن يدعو مَن قبله مِن الشعراء ويستنشدهم ما قالوا من الشعر في الجاهلية والإسلام [33].

وممّا تقدّم تبيّن أنّه لو استمرّ تدوين الحديث وروايته على ما كان عليه في عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله لكان الباب أضيق بكثير على جواز الرواية بالمعنى، ولمّا تمسّك النحاة بتلك الذريعة الواهية التي تسبّبت في إبعاد حديث أفصح من نطق بالضاد عن الدراسات النحوية والصرفية المتقّدمة، والتفريط بثروة لغوية كبيرة من الكلام النبوي البليغ.

وقد عبّر بعض أعلام الأمّة، وبدافع الحرص على تراثها الثقافي، عن لوعتهم ونقدهم لهذه الظاهرة المُدانَة، وكان على رأسهم شيخ الطائفة الطوسي ت 460 هـ، حيث قال في مقدّمة تفسيره (التبيان): ومن طرائف الأمور أنّ المخالف إذا ورد عليه شعر مَن ذكرناه [34] ومن هو دونهم، سكنت نفسه واطمأنّ قلبه، وهو لا يرضى بقول

محمّد بن عبدالله بن عبدالمطّلب صلّى الله عليه و آله، ومهما شكّ الناس في نبوّته فلا مِرية في نسبه وفصاحته، فإنّه نشأ بين قومه الذين هم الغاية القُصوى في الفصاحة، ويرجع إليهم في معرفة اللغة، ولو كان المشركون من قريش وغيرهم وجدوا متعلّقاً عليه في اللحن والغلط والمناقضة لتعلّقوا به وجعلوه حجّة وذريعة إلى إطفاء نوره وإبطال أمره واستغنوا بذلك عن تكلّف ما تكلّفوه من المشاقّ في بذل النفوس والأموال، ولو فعلوا ذلك لظهر واشتهر ... إلى أن قال: وقد علمنا أنّه ليس بأدون من الجماعة في الفصاحة، وكيف يجوز أن يحتجّ بشعر الشعراء عليه، ولا يجوز أن يحتجّ بقوله عليهم؟ وهل هذا إلا عناداً محضاً وعصبية صرفة، وإنّما يحتجّ علماء الموحّدين بشعر الشعراء وكلام البلغاء اتّساعاً في العلم وقطعاً للشغب وإزاحةً للعلّة، وإلا فكان يجب أن لا يلتفت إلى جميع ما يطعن عليه، لأنّهم ليسوا بأن يجعلوا عياراً عليه بأولى من أن يجعل هو عليه السّلام عياراً عليهم [35].

حُجّتهم داحضة

إنّ الحجج التي تذرّع بها النحاة لإخراج الحديث النبوي الشريف عن دائرة الاحتجاج اللغوي لا تصمد أمام النقد العلمي القويم، ولا تنسجم مع واقع الحال بأيّ شكلٍ من الأشكال، وسنعرض بعض ما يرد عليها من ردودٍ وملاحظات:

أوّلاً: جواز رواية الحديث بالمعنى، ويرد عليه:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير