ـ[بيان]ــــــــ[03 - 06 - 05, 12:47 ص]ـ
الجزء الثالث:
وما لي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذا أسرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من ماء الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى. ـ
هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول: ـ
إن التي زعمت فؤادك ملها * * * خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها وكلاكما * * * يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حبٌّ لها * * * لو كان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها * * * يوماً وقد ضحيت إذن لأظلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة * * * شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها * * * بلباقة فأدقها وأجلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي * * * ما كان أكثرها لنا وأقلها!
فدنا فقال، لعلها معذورة * * * من أجل رقبتها، فقلت: لعلها
هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاما إلى الليل!.ـ
وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليدا، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين: ـ
قالت (وأبثثتها وجدي فبحت به): * * * قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: * * * غطى هواك وما ألقى على بصري
هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه نارا لا يطفئها إلا الوصال: ـ
إذا وجدت أوار الحب في كبدي * * * عمدت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره * * * فمن لحر على الأحشاء يتّقد!؟
وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لمجلس من عبيد الله لو كان حيا، أحب إلي من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا كأني ليس في يدي شيء!.ـ
وهو مع ذلك الشاعر الغزل الذي يقول: ـ
شققت القلب ثم ذررت فيه * * * هواك فليم فالتمام الفطور
تغلغل حب عشمة في فؤادي * * * فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب * * * ولا حزن ولم يبلغ سرور
أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذا لقيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: "لا بد للمصدور من أن ينفث" فلا ينكر عليه ابن المسيب. وهو القائل: ـ
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم * * * ولامك أقوام ولومهم ظلم
ونمّ عليك الكاشحون و قبلهم * * * عليك الهوى قد نم لو نفع النم
وزادك إغراء بها طول بخلها * * * عليك وأبلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة * * * على إثر هند أو كمن سقي السم
ألا من لنفس لا تموت فينقضي * * * شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثما * * * ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها إن كنت تزعم أنه * * * رشاد ألا يا ربما كذب الزعم
ألا إن هذا هو الشعر!.ـ