{34} إن الشاعر يدخل إلى أية قصيدة، من البيت الأول (بابها العروضي)، وجملته (بابها اللغوي)، وادعا آمنا، حتى إذا ما مضى يقيم بنيانها باللبنة بعد اللبنة منهما، ذهبت دعته، واستحال أمنه خوفا؛ إذ يتصارع بين يديه العروض واللغة معا، ويتنازعانه، فيلين لهذه مرة ولذاك أخرى، وتظل القافية وكلمتها، أشد مواضع البيت وجملته اصطراعا مهما تغير العروض من عمودي إلى موشح أو حر، ما بقي الشاعر حريصا على اختيارهما من أبرز عناصر عروض قصيدته ولغتها تأثيرا في توصيل رسالتها، وما بقي الناقد حريصا على مراعاة ذلك في ذوق القصيدة.
{35} في هذا الموضع من البيت وجملته (القافية وكلمتها)، تتجلى مجاهدات الشاعر الناجحة أو الفاشلة جميعا، فنراه قد اختار صيغة كلمة دون أخرى، وقدم كلمة على أخرى، وزاد كلمة دون أخرى، ونقص كلمة دون أخرى، وكل ذلك لا يخرج عن أن يكون في منزلة من هذه المنازل الأربعة المرتبة ترتيبا منطقيا:
الأولى: إكمال نقص السابق.
الثانية: زيادة كمال السابق أو زيادة نقصه.
الثالثة: إضافة بعض اللاحق.
الرابعة: إضافة كل اللاحق.
إن القصيدة نص أي جمل متتابعة مترابطة المبنى والمعنى، وإن الجملة مركب لغوي من عنصرين أساسين، بينهما علاقة إسناد، وربما انضافت إليهما عناصر أخرى غير أسس، وإن كلمة القافية جزء من هذه الجملة، ربما كانت أساسا، فعلا أو فاعلا في الفعلية، أو مبتدأ أو خبرا في الاسمية، وربما كانت فرعا غير أساس، متعلقا بأساس أو بفرع آخر. وليس يمتنع أن تشتد حاجة الجملة إلى جزئها الفرع، غير أنها حاجة مؤقتة، وحاجتها إلى أساسيها دائمة.
{36} في المنزلة الأولى تكون كلمة القافية العنصر الأساس الآخر الذي يكمل العنصر الأساس الأول من الجملة، أو العكس متى قدم الشاعر وأخّر. إنها المنزلة التي جعلها المرزوقي من عمود الشعر ووصفها بشدة اقتضاء اللفظ والمعنى للقافية ثم جعل معيارها "أن تكون كالموعود به المنتظر يتشوفها المعنى بحقه واللفظ بقسطه " (78)، ونصح للشعراء غيره من النقاد، ألا يدخلوا بيتا لا يعرفون قافيته (79)، فصار الشعراء يصعدون بالبيت وجملته من أولهما إلى تاج رأسيهما وقنة جبليهما (القافية وكلمتها)، ليعلقوا الإعجاز بالصدور (80)، حتى فخر منهم الفاخر بحيازة قصيدته تلك المنزلة الأولى قائلا:
"خذها إذ أنشدت للقوم من طرب صدورها علمت منها قوافيها" (81)
لقد بين الجدول الثالث حصول هذه المنزلة، للنوع الخامس من كلمة القافية (فاعل أو اسم نائبه) بنسبة (4.51%)، وللنوع السادس (اسم خبر مبتدأ أو ناسخ) بنسبة (3.72%)، وللنوع السابع (مبتدأ أو اسم ناسخ مؤخر) بنسبة (1.70%).
مثال ذلك قول الستالي:
" شرف الأزد اليمانون به وتمنت أنها منه مضر…
أنت بالألسن محمود وفي كل قطر من أياديك أثر" (82)
لقد شغل العجز في كل منهما بما عطفه على الصدر، ثم شد آخر العجز إلى أوله بجعل كلمة القافية أحد أساسي جملتها، (فمضر) فاعل (تمنى)، الذي قدَّم عليه المفعول به، و (أثر) مبتدأ الخبر شبه الجملة (في كل) الذي أخره عنه.
إنها منزلة عزيزة، تظهر بها مُنّة الشاعر وقدرته واستطالته وشجاعته؛ فأما منته وقدرته فبكبحه جماح بيته وجملته المتصارعين بين يديه، بحيث وافق تمام هذه تمام ذاك، وأما استطالته وشجاعته فباستعماله التقديم والتأخير مطمئنا إلى فهم المعني (83).
وينبغي هنا ذكر قول ابن رشيق: "من الشعراء من يضع كل لفظة موضعها لا يعدوه، فيكون كلامه ظاهرا غير مشكل، سهلا غير متكلف، ومنهم من يقدم ويؤخر: إما لضرورة وزن، أو قافية وهو أعذر، وإما ليدل على أنه يعلم تصريف الكلام، ويقدر على تعقيده، وهذا هو العي بعينه، وكذلك استعمال الغرائب والشذوذ التي يقل مثلها في الكلام ... ورأيت من علماء بلدنا من لا يحكم للشاعر بالتقدم، ولا يقضي له بالعلم، إلا أن يكون في شعره التقديم والتأخير، وأنا أستثقل ذلك من جهة ما قدمت، وأكثر ما تجده في أشعار النحويين" (84).
لقد أثبت ابن رشيق دلالة استعمال الشاعر التقديم والتأخير على استطالته وشجاعته، من حيث أراد أن ينفيها، ثم ذهب يخوض في الشاذ ظانا أنه يعينه على النفي، وليس يمتنع أن يكون ذو التقديم والتأخير، سهلا غير متكلف ولا شاذ، ومثال الستالي مثاله.
¥