لقد كان القدماء يستحسنون أن تخرج أبيات القصيدة الواحدة، مخرج الأمثال السائرة، تامة المبنى والمعنى، غير مفتقر بيت منها إلى غيره، وكأنه قصيدة وحده (92)، ويستحسنون مع ذلك أن تكون القصيدة كلها كالكلمة الواحدة "تقتضي كل كلمة ما بعدها، ويكون ما بعدها متعلقا بها مفتقرا إليها " (93)، دون أن يكون بين الاستحسانين من تناقض- على رغم ما يجوز من اختلاف الأذواق - إذ المقصود أن يكون البيت كاللبنة في الجدار، لها شأنها الذي نستطيع أن نتحدث عنه ونعامله، وللجدار في الوقت نفسه شأنه الحاصل من اجتماع اللبنات بعضها إلى بعض وارتباطها (94). لهذا كان عيبهم أن يشتد افتقار بناء البيت النحوي إلى ما في البيت التالي له، بحيث ينقض استقلاله، ويصير كأنه كائن ضمنه (95).
ولم تحصل هذه المنزلة- فيما بين الجدول الثالث- إلا للنوع الحادي عشر (مبتدأ مضمن الخبر) بنسبة (0.04%).
مثال ذلك قول الصقلاوي:
"واصل طريقك فالشرف
أن تبق حلما لا يجف" (96)
لقد شد البيت الأول إلى البيت الثاني، بجعله كلمة قافية الأول (الشرف)، مبتدأ خبره المصدر المؤول الذي في الثاني، فمنع كلا من البيتين من أن ينفرد بشأنه عن الآخر. وهي منزلة عارضة نادرة.
{39} في المنزلة الرابعة تكون كلمة القافية، العنصر الأساس الأول من الجملة، على أن يكون مستغنيا عن ذكر العنصر الأساس الآخر، باستتاره فيه أو حذفه بعده، أو تكون كلمة القافية فرعا متعلقا بالأساسين المحذوفين بعده.
إنها لمنزلة قريبة الشبه بالمنزلة الأولى، تكاد تظهر مُنَّة الشاعر وقدرته مثلما أظهرتهما، غير أنها أشد منها إظهارا لاستطالته وشجاعته. فأما منته وقدرته فبإنشائه جملة جديدة كاملة المبنى والمعنى في المأزق الضنك، حين تكون كلمة القافية أساسا أول استتر فيه الآخر، وأما شدة استطالته وشجاعته، فبإنشائه جملة جديدة كاملة المعنى دون المبنى، في المأزق الضنك نفسه، حين تكون كلمة القافية أساسا أول انحذف بعده الآخر، أو فرعا انحذف بعده الأساسان جميعا" (97).
لقد بين الجدول الثالث حصول هذه المنزلة للنوع الثاني (فعل مستتر الفاعل) بنسبة (24.74%)، وللنوع التاسع (مبتدأ أو اسم ناسخ محذوف الخبر) بنسبة (0.50%)، وللنوع العاشر (حرف معنى محذوف المدخول الجملة) بنسبة (0.13%).
مثال ذلك قول البهلاني في إحدى مقصورتيه:
"وفي الصبا معتبة وزاجر فكيف بالشيب إذا العود انحنى…
ما سرني من الثراء وفره إن كان بين اللؤم والحرص نما
إذا نفته هكذا وهكذا صنائع في أهلها فقد زكا…
إلى متى ُنهْرَع في أذنابهم لا ملتجى لا منتهى لا منتحى…
يسومنا الخسف خسيس ناقص لادين لا حكمة لا فضل ولا " (98).
لقد أنشأ بكلمة القافية وحدها جملة كاملة المبنى والمعنى في الأبيات الأول والثاني والثالث، من فعل ماض استتر فيه فاعله الذي يعود إلى العود في الأول، والى الثراء في الثاني والثالث، فيربط هذه الجملة الصغيرة بالجملة الكبيرة المستولية على البيت، وأنشأ جملة كاملة المعنى دون المبنى في البيتين الرابع والخامس؛ إذ حذف منها آخر أساسيها في الرابع، وأساسيها جميعا في الخامس، اعتمادا على دلالة السياق، وربَطها بما قبلها بالعاطف المذكور في الخامس، والمحذوف في الرابع. لقد بلغ من شجاعته أن يقول: "ولا"، تاركا لنا أن نقدر المحذوف بالمذكور، مطمئنا إلى فهمنا ما لم يقله، وهو السحر الذي رآه في الحذف شيخنا الجرجاني، ولم يبالغ (99)، إذ يُخَيِّل الحاذف بكون كلامه مفهوما رغم حذف بعضه أو أكثره، أنه قد أكمله ولم يحذف منه شيئا، كما خيل الساحر للناس أن الحبل الجماد (المحذوف الروح)، حية تسعى!
{40} إن المنزلة الأولى (إكمال نقص السابق)، مقياس عادل لإحكام الشعراء شعرهم، وإن المنزلة الثانية (زيادة كمال السابق أو زيادة نقصه)، مقياس عادل لمجاهدة الشعراء في شعرهم، وإن المنزلة الثالثة (إضافة بعض اللاحق)، مقياس عادل لإغراب الشعراء بشعرهم، وإن المنزلة الرابعة الأخيرة (إضافة كل اللاحق)، مقياس عادل لشجاعة الشعراء في شعرهم، فإذا كنت قد خضعت في الحديث عن تلك المنازل في الشعر العماني، لذلك الترتيب المنطقي، فالآن أستطيع أن أرتبها ترتيبا استعماليا، على النحو التالي:
الأولى: زيادة كمال السابق أو زيادة نقصه، بنسبة (64.64%).
الثانية: إضافة كل اللاحق، بنسبة (25.36%).
¥