تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي سنة 1952م نشر الشيخ/ محمود شاكر قصيدته الرائعة (القوس العذراء) وهي قصيدة طويلة تبلغ مائتين وثمانين بيتاً استلهمها من قصيدة الشماخ- رضي الله عنه- التي مطلعها:

عفا نطن قوٍّ من سليمى فغالز فذات الغضا فالمشرفات النوافز

والشماخ هو ابن ضرار الغطفاني، شاعر فحل، صحابي، أدرك الجاهلية ثم أسلم، كان أعوراً، وعلى عوره كان وصّافاً، أجاد وصف الحمر الوحشية، غزا في فتوح عمر - رضي الله عنه، وشهد القادسية ثم غزا أذر بيجان مع سعيد بن العاص، فاستشهد في غزوة موقان سنة أربع وعشرين من الهجرة في عهد عثمان - رضي الله عنهما-

وفي زائيّته التي نسج الشيخ/ شاكر على منوالها، وصف الشماخ قصّة قوّاس صنع قوسا فأتقنها حتى كانت رميتها لا تخيب، ثّم اضطره فقره إلى بيعها، فأخذ الشيخ شاكر هذه القصة ونسج عليها رائعة من روائع الشعر المعاصر .. جعلها واسطة بينه وبين صديق له لم تبلو مودته وصداقته:

فدع الشماخ ينبئك عن قوَّاسها البائس من حيث أتاها

أين كانت في ضمير الغيب من غيلٍ نماها؟

كيف شقت عينه الحجب إليها فاجتباها؟

كيف ينغل إليها في حشا عيصٍ وقاها؟

كيف أنحا نحوها مبراته، حتى اختلاها؟

كيف قرت في يديه واطمأنت لفتاها؟

كيف يستودعها الشمس عامين تراه ويراها؟

وفي هذه القصيدة القصصية استودع شاكر نظرته للحياة، وبيّن فيها صراع العاطفة مع العقل، وكيف يهزم المال الحب؟، وكيف يتحطم المثال على صخرة الواقع .. وشاكر في هذه القصيدة كأنه يبرر لنفسه ما أصابه من اضطراب بين مواقفه الجريئة الواضحة وبين ما كان يقع فيه من أعمال لا تستقيم مع رؤاه:-

وفاضت دموع كمثل الحميم لذاعة نارها تستهل

بكاء من الجمر، جمر القلوب، أرسلها لاعج من خيل

وغامت بعينيه واستنزفت دم القلب يهطل فيما هطل

وخانقة ذبحت صوته وهيض اللّسان لها واعتقل

وأغضى على ذلّة مطرقا عليه من الهم مثل الجبل

أقام وما أن به من حراك تخاذل أعضاؤه كالأشل

ولكن الشيخ يختم قصيدته بالأمل وبوجوب ترك اليأس بعد السقوط على خلاف ختم الشماخ قصيدته:_

أفق يا خليلي أفق لا تكن حليف الهموم صريع العلل

فهذا الزمان وهذي الحياة علمتنيها قديما .. دول!!

أفق لا فقدتك ماذا دهاك؟ تمتع! تمتع بها لا تُبَل

بصنع يديك تراني لديك، في قدِّ أختي! ونِعْمَ البدل

صدقت! صدقت! وأين الشّباب؟ وأين الولوع؟ وأين الأمل؟

صدقت! صدقت!! نعم صدقتُ! سِرُّ يديك كأن لم يزل

حباك به فاطر النّيرات، وباري النّبات، ومرسي الجبل

فقم واستهِلّ، وسبّح له! ولبَّ لرب تعالى وجل

كانت هذه القصيدة وما زالت صفعة في وجه الراحلين عن ثقافتنا وتراثنا، مصعرين خدودهم باحتقار وازدراء، موجهين هاماتهم نحو اليونان والرومان لا يعرفون إلا الأساطير الوثنية، ولا يتمثلون إلا الصور الشِّركية لآلهتهم النجسة، لقد كانت هذه القصيدة وما زالت محطمة للحواجز الوهمية التي يزعمها أهل الصّغار في عدم فهمهم للتراث وعدم استيعابهم له، فها هو الشيخ/ شاكر يقتحم أكثر الحصون مناعة في الشعر الجاهلي، شعر الشماخ الذي قيل فيه:- (كان شديد متون الشعر، أشد أسر كلام من لبيد وفيه كزازة) واستخرج منه شاكر هذه اللؤلؤة الصافية، يستخدمها ليبث روحه فيها، ويجللها بمضمون فلسفي رائع، يكشف بها عن نفسه وعن آرائه وقدراته، ولذلك وقف النقاد وقفة احترام وتقدير لهذه القصيدة، وكثرت الدراسات حولها، ومن هؤلاء النقاد: الدكتور إحسان عباس، والدكتور مصطفي هدّارة، وزكي نجيب محفوظ، ومحمد محمد أبي موسى ..

يقول الدكتور إحسان عباس عنها: - " ليست في محاولة الإبتكار بقدر ما هي في العودة إلى التراث، وربط الحاضر بالماضي، وإيداع القوة الرمزية فيما يبدو بسيطا ساذجاً لأول وهله. وفي ذلك كله نوع من الإبداع جديد، وبرهان ساطع على أن تطلب الرموز في الأساطير الغربية عن التراث يدل على جهل به، أو على استسهال لاستخدام رموز جاهزة أو عليهما معاً.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير