[(التقدم بالكتابة) مقال للشيخ الخضر حسين التونسي]
ـ[عبدالله بن حسين الراجحي]ــــــــ[02 - 11 - 05, 08:30 ص]ـ
(التقدم بالكتابة)
الأمة عبارة عن نظام يتألف من أفراد شتى , تجمعها جهة واحدة كالجامعة الدينية أو الوطنية , ولايلزم في استمرار حياتها واستقامة بنيانها أن تتناسب أفرادها كالحلقة المفرغة لايدري أين طرفاها بل تتفاوت رتبهم رفعة وحطة , وتختلف إرادتهم في التفنن على جلائل الأعمال وصغائرها.
سنة الله في اللذين خلوا من قبل.
ولا يؤدي ذلك التفاوت والاختلاف إلى انتهاك قواهها وانشقاق عصاها , مادام أولوا القوة منها , وهم علماؤها ذوو الأفكار الرشيدة: باذلين جل عنايتهم وأقصى مجهودهم في تقويم المعوج من أخلاقها , وتعديل الزائغ من عقائدها , والنهي عن البدع المذمومة بألسنة من يعتد بهم في الدين , والتنفير عن العوائد التي ترتعد من هجنتها فرائض أهل البصائر؟ غير مشتبه عليهم ما يهيج الفتن ويحرك سواكن المزعجات؟ فيتجنبونه , وما يتأيد به حق أو يدمغ به باطل , فينتهزون فرصته , مع الاستطلاع على غايات ما ينشر من المصنوعات المبتدعه والفنون المخترعة , ليرتبوا أحكامها على قواعد راسخة , فيما اشتمل على مصلحة شيدوا له ذكرا ورفعوا له شأنا , حتى تتناوله جمهور الأمه بصدور سليمة من عقدات التحرج , وما شابه أن يكون مفسدة أولا نتيجة له إلا الاستغراق في فضول الحضارة , أسرعوا إلى إطفاء نيرانه قبل تسعرها , صيانة لوجه المدنية الكبرى من أن تغشاه غبرة أو ترهقه قتره , وقياما بحق الوراثة المنوطة بعدتهم من قبل صاحب الشريعة.
وهم على خبرة – أيدهم الله – أن هذه المقاصد التي صعدنا إليها النظر: لاتنفك عنهم تبعتها إلا بإفراغ الجهد في التجاهر لما لها أو عليها , ولا أرفع صدى وأبعد مدى من لهجات أقلامهم المرتاضة ونفثاتها الفعالة في النفوس , الآخذه بمجامع القلوب.
وبذلك يتجلى في عالم الشهادة ما لساداتنا العلماء من الشرف الرفيع والمقام المحمود , ويعلم المستخفون الآن بحرمتهم أن خطتهم أفسح مجالا من أن تقصر على حكاية ما بين دفتي كذا , مع التماوت في ثوب الخمول والإعراض عن النظر في كل ما يعد ظاهرا من الحياة الدنيا , وعدم الاعتبار بما تضعه بطون الليالي من الحوادث الجليلة.
وفي عناية اللذين أوتوا العلم بشأن الكتابة: مآرب أخرى:
منها: المحافظة على ما للإنشاء العربي من الأساليب المؤثرة على الأذهان , وإحياء ما اندرس من آيات سحر بيانها , وفي ذلك أخذ بيد الخلف حيث يقفون تجاه قوم سروا في مضمار هذه الصناعه شوطا بعيدا.
ولقد نعلم أنهم لم يقوموا جدار هذا الارتقاء باستعداد زائد في فطرتهم , أو لقوة فائقة في إنسانيتهم أو لسر خصه الله بأقلامهم , وإنما سلكوا مسلك الحزم والنشاط , فمسحوا عن أعينهم نوما كان شره مستطيرا هم رجال ونحن رجال , أقلامهم من القصب الذي ننحت منه أقلامنا , ولا يحملونها إلا بمثل أناملنا قوة وشكلا , أما مدادهم نوع ما نكتب به الحروف الهجائية لصبيان المكاتب , و أما محابرهم فليست غير الظروف التي نبتاعها من الزجاجين ولنا أن نتخذها زجاجات كأنها قوارير من فضه , وأما ورقهم الذي ينشرون فيه ذلك الطراز البديع , فها هو ذا بين أيدينا , لم ندرك فرقا بينه وبين ما يضع فيه الباعه سقط متاعهم.
ويكأنهم تقدموا وتقاعدنا , وافتكوا عزائمهم من سلاسل التكاسل وأغلال التواني , واستماتت هممنا تحت إصرها الثقيل , ونحن بما عندنا راضون , ويقول بعض الملأ الذين استكبروا: لمثل ذلك السكون فليعمل العاملون.
وههنا نكتة أخرى نستأذن حضرات القراء في إرسالها , وهي أن بعض الشعب يريد كل امرىء منهم أن لايصدع بكلمة حتى يتسلمها جميع من في العالم بيد القبول والاحترام , وإلا فلا يكلم بها حتى إنسيا خشية أن يسترق الشياطين سمعها.
علة ذلك أن قلوبهم مستضعفه , لا تتجلد بالمصابرة على سهام الانتقادات الراشفه , يود الكاتب أن يخر من السماء تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق , ولا يبدي رأيا ترده النقاد على عقبه , لما يقدره من أن دحض رأيه ولو مرة: تسقط به جلالته من أعين الذين يتهيبونه , مع أنه كثيرا ما يحكم على بعض الجهابذة بعدم الإصابة في عدة مسائل , ولا يهضم ذلك من جانب عظمتهم شيئا.
ولايختلج في ضمائرنا أن تلك الأمه التي تقدمت في طريق الأدب شعرا وكتابة: بمجرد ما تنبهوا بعد ذلك السبات المديد , انتصبوا قائمين على هذه الصورة التي نشخصهم بها اليوم حتى نستصعب أن نكون غدا أو بعد غد واقفين حيالهم , ويقودنا هذا الاستصعاب إلى التمسك بحبال اليأس والقنوط والزهد في رقيهم الأسمى , بل نستيقن أنهم لم يصلوا إلى هذه الدرجه القصوى إلا بالتنقل في طريقها رويدا رويدا , ومجاهدة مصاعبها شيئا فشيئا , في أزمنة متسعة.
ونحن نؤمل من أبناء وطننا العزيز , أن ينزفوا غلالة جهدهم في تحرير الموضوعات المفيدة كتابة , كما صرفوا إليها وجهتهم تدريسا , يعدوا لنبال الطعن والانتقاد ما استطاعوا من ثبات وقوة الجأش , ويرضخوا شوكتها بالإغضاء وعدم الإكتراث برمتها ((ى وأنا الكفيل بأن تعود حياتهم)).
ولقد امتلأت صدورنا جذلا حين استهلت في وجوهنا تباشير رسائلهم العلمية والأدبية , ويوشك أن يعقبها صباح يزيد شعور إخواننا تنبها وعواطفهم رقة , فيكتال لهم التاريخ من جميل الذكر ما يكتاله للأمم المترقيه , ويوفيهم الله أجرهم بغير حساب.
كتبه
محمد الخضر حسين
¥