تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إغراء ضعاف العزائم، و مرضى النفوس؛ من طلاب المغانم، و رواد المطامع. و لقد يترقبهم أولياؤهم و أهلوهم الساعات الطوال من الليل والنهار فلا يظفرون بهم إلا خلسا من الوقت مثل حسو الطير، بل قد يترصدهم الموت فلا يقع عليهم إلا في حلقة درس، أو قاعة بحث، أو جلسة تأليف، أو ميدان مناظرة، أو رحلة مخطرة في طلب علم. و هو حين يظفر بهم لا ينتزع معهم، و لا يذهب بآثارهم بذهاب أرواحهم؛ إذا كانوا يعدون لهذا اليوم عدته من قبل فيدونون بحوثهم، و يسجلون قواعدهم و يختارون خلفاء من تلاميذهم يهيئونهم لهذا الأمر العظيم، و يشرفون على تنشئتهم، و تعهد مواهبهم إشراف الأستاذ البارع القدير على التلميذ الوفيّ الأمين؛ حتى إذ جاء أجلهم ودّعوا الدنيا بنفس مطمئنة، واثقة أن ميدان الإنشاء و التعمير النحوي لم يخل من فرسانه، و أنهم خلفوا وراءهم خلفا صالحا يسير على الدرب، و يحتذي المثال، و ربما كان أسعد حظا، و أوفر نجحا من سابقيه، و أدراك لما لم يدركه الأوائل.

على هذا النهج الرفيع تعاقب طوائف النحاة، و توالت زمرهم في ميدانه، و تلقى رايته نابغة عن نابغة، و ألمعيّ في إثر ألمعيّ، و تسابقوا مخلصين، دائبين، فرادى و زرافات في إقامة صرحه، و تشييد أركانه؛ فجاء سامق البناء، و طيد

/ صفحة 384 /

الدعامة، مكين الأساس، حتى وصل ألى أهل العصور الحديثة التي يسمونها: (عصور النهضة) قويا، ركينا، متينا، من فرط ما اعتني به الأسلاف، و وجهوا إليه من بالغ الرعاية.

تلك كلمة حق يقتضينا الإنصاف أن نسجلها؛ لننسب الفضل لذوية، و إلا كنا من الجاحدين. لكن أهل هذه العصور الناهضة لم يمدوا نهضتهم إليه، و لم يبسطوا سلطانهم عليه، و لم يتناولوه بما تناولوا به غيره من تجديد يبعث الحياة في قديمه، أو تنظيم يجمع ما تفرق منه، أو نوع من الإصلاح و التيسير يشيع فيه البهجة، و يحببه إلى النفوس، و يبعد عنه ما اشتهر به من جفوة، و قسوة، و قصور. و اكتفوا من تقديره بأن أوسعوا له مكانا في خزائن كتبهم، و تركوه يغط في نوم عميق؛ لا يوقظونه و لا يتيقظون له. إلا حيث يدعوه داع من رجال الأزهر فيجيب؛ مع همس الدعوة، و وهن الإجابة، و كيد الزمان، و انصراف الناس.

و قد يناديه المنادي من وزارة التربية و التعليم أن أقبل؛ فبنا بعض الحاجة إليك، و لكنها حاجة المستكمل لا المضطر، و المتجمل لا المفتقر، و دعنا نتخير، و نتصرف، و نختصر، و نتحرر، فعصورك الأولى غير عصورنا و أنت مخلوق لزمان غير زماننا؛ فيقبل في خجل، و يمشي على استحياء، و يسلم الأمر للزاهد فيه، الراغب عنه، و يرضى بما يصيبه منه. و لوأن أهل العصور الحديثه بذلوا في إصلاحه و تقويمه بعض ما بذلوه في غيره، أو وجهوا إليه اليسير من اهتمام أسلافهم –لكان نصيبه في النفع أوفى، و أثره في الإفادة أعم، و لكان به شأن أي شأن في نشر الحضارة العربية، و إقامة دعائمها، و تجديد معالمها بما يلائم الحياة القائمة، و يساير العصور الحديثة.

ليس من شك أن التراث النحوى الذي تركه أسلافنا نفيس غاية النفاسة، و أن الجهد الناجح الذي بذل فيه خلال الأزمان المتعاقبة جهد لم يهيأ للكثير من العلوم المختلفة في عصورها القديمة و الحديثة. بيد أن النحو كسائر العلوم الأخرى؛ تنشأ ضعيفة ثم تأخذ طريقها نحو النمو، و القوة، و الكمال، بخطا و ئيدة أو سريعة

/ صفحة 385 /

على حسب ما يحيط بها من أسباب و أحوال. ثم يتناولها الزمان بحوادثه؛ فيدفعها إلى التقدم و الإصلاح و التشكل بما يلائم البيئة و مقتضيات الحياة؛ فتظل الحاجة إليها شديدة و الرغبة فيها قوية. و قد يعوقها، و يحول بينها و بين التطور؛ فيضعف الميل إليها، و تفتر الرغبة فيها. و قد يشتط في مقاومتها فيرمي بها إلى الوراء؛ فتصبح في عداد المهملات.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير