تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي هذا المثال يقال ما سبق في غيره وفي مئات من نظائره التي لم أسردها. وحين أقول " مئاتٍ " فإنما أقصد الحقيقة العددية المعروفة اليوم من غير مبالغة في التقدير ولا إسراف. من ذلك كله يتبين لنا ما في النحو من شوائب الخلط والاضطراب وعدم الاستقرار. ولها من سيئ الآثار ما وصفنا وما لم نصف.

وازدادت المشكلة تعقيداً بازدياد هجرة العرب (سواء أكانوا من القائل الست أم من غيرها). إلى الأمصار الجديد؛ كالبصرة، والكوفة، وبغداد، ودمشق، وحواضر الأندلس وغيرها؛ فضربت القبائل النازحة هناك بخيامها، واستقرت كل قبيلة بمصر، وتكلموا فيه بلسانها الأول، وبلغتها ولهجتها التي كانت تصطنعها قبل هجرتها؛ فتباينت اللغات واللهجات في المواطن الجديدة، تباينها في المواطن القديمة، بل زادت وصار لكل مصر لغة تختلف قليلا أو كثيراً عن لغة غيره من الأمصار، بقدر الاختلاف القديم بين لغتيهما قبل الهجرة من موطنهما الأصيل في شبه الجزيرة العربية، بل أكثر.

ثم زاد التدوين والتأليف والتعليم، واستمد كل واحد من هذه الثلاثة وجوده من اللغة السائدة في مصره؛ فتباينت النتائج والآثار العلمية والعملية بتباين اللغة واستمساك كل قبيلة بلغتها ولهجتها؛ فنشأت الفرق والمذاهب النحوية الجديدة؛ ما بين بصريين، وكوفيين، وبغداديين، وأندلسيين ... كل فريق يستمد أحكامه ويستنبط قواعده من اللغة التي تحيط به، وتشيع في حاضرته؛ فاتسع ميدان الفوضي النحوية، وكثر المضطربون فيه، ولم يقتصر الأمر على هذا؛ بل كان من الجماعة الواحدة " البصرية أو الكوفية ... " من يخرج عليها ويخالفها في بعض آرائها فيبتكر رأيا جديداً، أو ينضم إلى رأي فريق آخر، فالبصري قد ينادي برأي مستقل ليس لطائفته، وقد يأخذ برأي الكوفي، والكوفي كذلك قد يستقل، أو يتابع البغدادي، وهكذا ... لدليل ارتضاه وخالفه فيه حواريوه. فزاد تعدد الآراء النحوية في المسألة الواحدة، وزاد اختلاف الأحكام فيها؛ وخفيت الحقائق على طلابها، وصعب عليهم استخلاصها مما يغشيها، وزهدوا فيها أو كادوا، وقد

/ صفحه 60/

استدعى التعدد والاختلاف أن يقيم كلٌّ حجته، ويدلي ببرهانه، ويدفع أدلة الآخر؛ فانفتح بذلك باب بغيض من المنطق الجدلي، والسفسطة العنيفة، وملأ النفوس حنقا، وأرهق العقول، وكاد يقضي على حسن الظن بجلال النحو وعظيم شأنه، وشدة الحاجة إليه، والى الاستفادة منه، ولا سيما بعد أن تعاورته حقب وأجيال لم تصلح من أمره شيئا؛ بل زادته تشويها وإفساداً. وحسبي أن أشير ـ مرة أخرى ـ إلى باب كباب الجوازم والنواصب، في كتاب " همع الهوامع " ليفزع القارئ حين يرى الخلاف يشمل كل مسألة من مسائله، وتعدد الآراء يعم قواعده؛ فيملأ النفس حيرة واضطرابا، بمازجها دهش غامر، وحسرة بالغة.

لعل فيما تقدم ما ينهض دليلا على أن النحاة الأوائل قصَّروا وأساءوا ـ غير قاصدين ـ برغم ما لهم من فضل لا يجحده منصف، وجميل لا يماري فيه إلا جاهل أو مكابر. وقد سكت خلائفهم عن هذا التقصير. وكان صائب الرأي، وصادق التقدير، يقتضيهم أن ينظروا بعين الغيب إلى هذه المشكلة العنيفة التي جلبت البلاء على النحو والنحاة وطلاب التحصيل، ويتوقعوا ظهورها بارزة كأداء خطيرة، فيبحثوا أول ما يبحثون مسألة اللغة في القبائل العربية المختلفة؛ أمتساوية لديهم جميعا؛ في الفصاحة، وسلامة المبني، وصحة التركيب، أم متفاوتة؟ وماذا وراء البحث؟ وراءه نتيجة هامة الأثر خطيرة الغاية. فإن صح أن اللغات والقبائل متساوية في هذا ـ كما يقول الثقات ـ صح الحكم القاطع بإخفاق كل محاولة لوضع " نحو " موحد " وقواعد " عامة شاملة تقدم لهذه القبائل كلها مع كثرة لهجاتها، وتباين كثير منها، وليس بعضها أحق بالأخذ من لغته دون الآخر؛ فكلهم سواسية، وليس بمستطاع الأخذ عنهم جميعاً؛ فأي " نحو " هذا الذي يحوي في ثناياه كل القواعد والأحكام التي تنطبق على كل اللغات واللهجات وتوافق أصحابها على وفرتهم وتشعب خصائصهم اللغوية؟.

إن " نحواً " كهذا ـ إن أطاقه الجهد، واتسع له الوقت ـ يكون أشد بلبلة، وأوسع اضطراباً، وأعم فوضي من " النحو " الذي نعيبه ونزري عليه. والسبب

/ صفحه 61/

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير