و ـ حضر وخطب محمود: لمن الفاعل منهما؟ هذه إحدى مسائل باب التنازع. والثاني أولى عند البصريين في هذا المثال وأشباهه؛ لقربه ولو كان أضعف من الأول في العمل " كما يقول الصبان " في بعض الصور، والكوفيون يفضلون الأول لسبقه ...
لعل فيما أوردناه من الأمثلة ما ينهض دليلا على أن " العامل " قد تجاوز اختصاصه حين أخرجه النحاة من دائرته المحمودة إلى التحكم في الألفاظ والتراكيب؛ ذلك التحكم الذي هو داعية الدهش بل السخط، وسبب من أسباب الإساءة إلى اللغة، وتعسيرها على المتعلمين، والراغبين فيها، والناطقين بها. ولا يكاد باب من أبواب النحو يخلو من أمثال تلك المسائل التي قدمناها نماذج وصورا موضحة، لم نقصد إلى تصيدها، ولم نرد بها الحصر أو ما يشبهه؛ فنظائرها كثيرات تتجاوز العشرات إلى المئات؛ لا مبالغة في هذا ولا تزيد. فلا عجب أن كان النحو بسببها معيبا، ومن أجلها قاصراً عن الإفادة المرجوة، والنفع الأكمل. ولا منص من تطهيره منها إن أردنا له صلاحا، وللغتنا تيسيراً.
والوسيلة الصحيحة لذلك أن ندع كل تأويل وتخريج، وأن نجري في الأمور على ظواهر الألفاظ كما رويت الينا (2)، ونبيح القياس عليها ومحاكاتها، ونغير من أصول القواعد النحوية ما يحرم هذا أو يعارضه؛ فتسلم الألفاظ والأساليب القديمة بغير حاجة إلى تخيل وتوهم، ويتسع مجال التعبير أمامنا من غير كلفة، ولا معاناة، ولا طول دراسة
ــــــــــ
(1) الصبان. عند مناقشة شرح الأشموني لبيت ابن مالك: وأبرزته مطلقا.
(2) بحيث لا يفسر لمعنى المراد.
/ صفحه 392/
صناعية للقواعد النحوية، ونكاد نجري في هذا على مقتضى السليقة، ووحي القراءة الأدبية المحببة، لا القواعد النحوية المعقدة، ومجادلات النحاة المسرفة المغرقة.
وأمامنا الأمثلة السالفة التي عرضناها نأخذها كما وردت؛ لا نغير من ظواهرها شيئا، ولا نربط تصحيحها بعامل محذوف يفسره المذكور، ولا نوقف تصحيحها على التقديم من تأخير، ولا على أشباه هذا مما تخيلوه وتمحلوا له، واصطنعوه في تكلف وتصيد، وركاكة أوهت الأسلوب، وأفسدت المقام.
ولا يقولن قائل إن هذا قد يوقعنا فيما نحاول الفرار منه؛ وهو: تعدد الضبط في الكلمة الواحدة وكثرة الوجوه فيها. ذلك أن التعدد هنا لن يكون نتيجة اختلاف بين النحاة، هذا يرى رفع الكلمة، وذاك يرى نصبها، وثالث يرى أنها مبتدا، ورابع يرى أنها لا تصلح مبتدا إلا شذوذا ... إنما هو نتيجة الإباحة وإطلاق اللسان من غير قيد ظالم يحبسه، أو يوجهه. فنحرره لينطلق بما يشاء في الميدان المباح. على أننا لو أردنا أن نبالغ في الدقة والضبط ونقصره على ضبط واحد دون غيره اختصاراً وتيسيراً على الناشئة في تعلم القواعد، لم يقم دون ذلك حائل، ولوجب الاقتصار على لغة القرآن وحده؛ نتخير ما يسير معها ـ كما سبق عند بحث المشكلة الأولى ـ فإذا جاء القرآن بضبطين كالحالة التي نحن بصددها وجب أن نبيحهما معاً، ولا مندوحة لنا عن ذلك.
بكل ما سبق نُساير منطق الوقائع، ونجري مع طبيعة الأشياء في ميدانها الصحيح، ونطهر النحو من آثار الفِكَر السقيمة التي اوحت إلى بعض أصحابها قديماً أن يقولوا في إقناع واقتناع: " لو لا الحذف والتقدير لفهم النحو الحمير "!!.
فياليت ما كان بالأمس محذورا يصبح اليوم ميسورا. اذاً لسهل النحو، واستراح النحاة وغيرهم، واختفى كثير من المسائل القاعدية التي لا خير فيها، بل التي لها ضرر محقق باختفاء هذا الحذف والتقديرن اللهم إلا فيما لا غني عنه، ولا ضرر فيه؛ كحذف المبتدا؛ أو الخبر حين يسأل السائل: من سافر؟ فنجيبي عَليّ ...
/ صفحه 49 /
.صريح الرأى في النحو العربى ْ
داؤهُ وَ دَواؤه
للأستاذ عباس حسن
أستاذ اللغة العربية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة
ومشكلة التعليل،كيف وُلِدَتْ و نَمَت ْ وامتدت ؤصولا وفروعا على الوجه الذي نرى في مطولات النحو؟ تتسرب إلى كل مسألة،وتسلل لكل قاعدة،وتملأ الصفحات الكثيرة بكل مُجَاف للعقل،بعيد من الحق،إلا في أقل المسائل،وأنذر القواعد.وبسببها نشأت آراء متعددة; فتحت أبوابا جديدة للخلاف،وتَشَعُّب المذاهب غير الأبواب المفتحة من اللهجات العربية.وبحسبى أن أنقل منها نماذج،إن كان الأمر في حاجة إلى دليل يقوم،ومثل يحضر.
¥