ومما لا يدع مجالاً للشك أن لكل علم فلسفة لا تأتي إلا بعد اكتمال العلم وكذلك لكل علم أصول ومقومات لا يقوم إلا بها، فهي قوامه وعماده، التي لا غنى عنها ولا يتأتى إلا بها، ولا يكون العلم علماً إلا بها، وليس أدل على ذلك من موقف الكسائي الذي لم يكن يرى النحو إلا قياساً لذلك يؤثر عنه:
إنّما النحو قياس يتبع وبه في كل أمر ينتفع (13)
والقياس له عظيم الفائدة للغة وقواعدها؛فهو بمثابة شهادة ضمان للغة ووقاية لقواعدها من اللحن والتحريف، وقد وافق الدكتور إبراهيم أنيس المحدثين، وذهب إلى ما ذهب إليه المجددون من الباحثين الذين ينادون بإباحة القياس اللغوي للموثوق بهم من أدبائنا وشعرائنا، لا إلى جعل القياس في اللغة بأيدي الأطفال وعامة الناس كما هو الحال في كل لغة يترك أمرها لسنة التطور (14)
فالقياس هو أدعى إلى الاختصار باعتباره يقيس الظاهرة على ظاهرة أخرى ويحكم لها بحكمها، فتأخذ الظاهرة المقيسة حكم الظاهرة المقاس عليها،وقد أدرك القدماء فائدته لذلك يقول أبو علي الفارسي " أخطيء في خمسين مسألة في اللغة، ولا أخطئ في واحدة من القياس " (15) ويقول عنه ابن جنى " مسألة واحدة من القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس " (16)
وأشار إلى أهمية القياس الشيخ محمد الخضر حسين، حيث يرى أن القياس طريق يسهل به القيام على اللغة بحيث يكون وسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل أو يحتاج إلى الوثوق من صحة عربيتها، إلى مطالعة كتب اللغة والدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها. (17)
ثانياً: العلامة أبو علي الفارسي:
اسمه:
هو أبو علي الحسن بن احمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان الفارسي، وهو فارسي الأب، ولكن أمه عربية من سدوس شيبان من ربيعة الفرس، ولد سنة ثمان وثمانين ومائتين للهجرة بمدينة اسمها (فسا) وهي بلدة كبيرة من بلاد فارس، تقارب في الكبر مدينة شيراز، توفي في بغداد سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. (18)
حياته:
خرج من موطنه فارس ودخل بغداد سنة (307) هـ،وتجول في كثير من البلدان.وأقام طويلاً في بلاد الشام وكان أكثر مقامه بحلب في بلاط سيف الدولة، وحينها جرت بينه وبين أبي الطيب المتنبي مناظرات،ثم عاد إلى فارس وأقام في شيراز بصحبة عضد الدولة بن بويه حتى سنة 368 ومنها عاد إلى العراق، وقد علت منزلته في فارس حتى قال عضد الدولة عنه: " أنا غلام أبي علي في النحو ".
وقد تلمذ أبو علي لمشيخه جليلة من علماء العربية، منهم أبو اسحق الزجاج المتوفى سنة (311) هـ،وأبو بكر السراج المتوفى سنة (316) هـ، وأبو بكر الخياط المتوفى سنة (320) هـ، وأبو بكر دريد (321) هـ، وابوبكر مجاهد (324) وأبو بكر مبرمان (345).
علمه وأبرز تلاميذه:
كان إمام وقته في علم النحو، عالم عصره ومزيد دهره، كرس وقته لخدمة اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وكان من النحاة المحبين للسفر والترحال؛ فلا يكاد يصل إلى مدينة ويضع فيها قدميه حتى يغادرها إلى أخرى، وقد انتفع بعلم أبي علي تلاميذ، صار لهم نباهة وشأن، منهم أبو الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة (392) هـ، وهو من أكثر التلاميذ صحبة له وانتفاعاً به. وقد بدأت صلة ابن جني به في جامع الموصل، بالقصة المشهورة التي تقول: أن ابن جني كان شاباً يدرّس العربية في جامع الموصل، فمر به أبو علي، فوجده يتكلم في مسألة قلب الواو ألفا، في نحو قام وقال، فاعترض عليه أبوعلي، فوجده مقصراً، ونبهه على الصواب قائلاً له: " تزبّبت وأنت حِصرم، وكأنما فجّرت هذه الكلمات مكامن علم خبيء، واستنبطت عين ماء غير ذاهب في الثرى، واستخرجت معدناً نفيساً ضارباً في الأرض بعروقه." وهناك مواقف أخرى بين هذا التلميذ وأستاذه نذكر منها أن ابن جني كان يقرأ على الفارسي كتابا للمازني، فلما جاء ذكر قول أبي عثمان في الإلحاق المطرد: " إن وضعه من جهة اللام نحو قعدد،ورمدد وشملل وصعرر، وجعل الإلحاق بغير اللام شاذاً لا يقاس عليه مثل:جوهر وبيطر وجدول ... الخ " قال أبو علي:" لو شاء شاعر أو ساجع اومتسع أن يبني بإلحاق اللام اسماً وفعلاً وصفة لجاز له ولكان ذلك من كلام العرب، وذلك نحو قولك: خرجج أكرم من دخلل، وضربب زيد عمراً، ومررت برجل
¥