تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[الاتساق في سورة القارعة.]

ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[02 - 07 - 08, 03:03 م]ـ

الاتساق في سورة القارعة

بسم الله الرحمنة الرحيم:

الْقَارِعَةُ {1} مَا الْقَارِعَةُ {2} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ {3}

المطلع لتحقيق مقصد التهويل، والتهويل تعظيم وتخويف:

التعظيم لموضوع الخطاب، والتخويف لمتلقيه ...

"القارعة" تحتمل أن تكون مستقلة تركيبيا،كما تحتمل أن تكون مبتدأ أخبر عنه بالجملة الاستفهامية بعدها .. وإنما الإعراب الأول هو الأنسب لمقصدية التهويل، لما فيه من إثارة التوتر عند المتلقي .. فالإنسان مفطور على ترقب "المسند" كلما وقع في سمعه "مسند إليه" وتأجيل ذكره - أو عدم حصوله- يفضي إلى زيادة مدة التوتر واشتداده ..

كيف و توتر غياب الخبر - الذي يشرئب له العنق- يعضده هنا حصول امتلاء السمع بجرس كلمة"القارعة"!

ويلحظ معها إيحاء صيغة التأنيث في اسم الفاعل،فالعربية في الغالب تخصص هذه الصيغة لما هو مخيف وشديد مثل "الداهية" و "المصيبة" و" القاصمة" و "الصاعقة" و"الحالقة" وغيرها ... ولهذا الملحظ كثرت في القرآن الأسماء المؤنثة الدالة على اليوم الآخر: "القيامة"و "الواقعة" و"الطامة" و"الصاخة" و"الغاشية"و "القارعة" ...

مَا الْقَارِعَةُ {2}

استدامة للتوتر .. فلم يحصل إخبار ولكن حصل سؤال .. فيكون المتلقي واقعا تحت وطأة السؤال مرتين:

-السؤال المضمر في ذهنه الناشيء من سماعه الكلمة الغريبة "القارعة" "ما هذه القارعة "!

-السؤال الذي جاء في محل الجواب المرتقب .. "ما القارعة" ...

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ {3}

تأجيل الإخبار مرة ثانية لتأجيج التشوق إلى ما سوف يأتي .. والآية مكونة من استفهامين: الثاني مكرر لما سبق، والأول متناسب مع حالة المتلقي المتلهف على المعرفة "وَمَا أَدْرَاكَ".

ثلث التكرار للكلمة والأسلوب:

فقد جاءت كلمة "القارعة" في خواتم الفواصل الثلاث وتكرر معها أسلوب الاستفهام ثلاث مرات أيضا ..

لقد اجتمع في هذا المطلع من أساليب التهويل ما لا يجتمع في الكلام عادة:

1 - الجرس.

2 - الصيغة.

3 - الحذف.

4 - التكرار.

5 - الاستفهام.

6 - تأجيل الخبر.

7 - الإظهار في موضع الإضمار.

8 - المواجهة بالخطاب.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ {3} يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ {4}

انتقال من مجال المسموع إلى مجال المرئي:

"القارعة":تنبيه شديد للأذن مبنى ومعنى ... قال ابن عاشور:

" ... والقارعة: وصف من القرع وهو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت ".

ويؤخذ منه المقومين الدلالين:الضرب + الصوت ..

والضرب لا ينفصل عن إيحاء الشدة والعنف، ماديا في مثل:

"قرع الباب" و" مقارعة الأبطال"و "المِقْراع" (فأسٌ أو شِبهُه تُكسَرُ بها الحجارةُ كما في التاج)

ومعنويا في مثل:

"قرع الناب والسن" كناية عن شدة الندم كما في قول الصعلوك:

لَتَقْرَعَنَّ عليَّ السِّنَّ مِن نَدَمٍ ... إذا تذَكَّرْتَ يَوْمَاً بَعْضَ أخلاقي

والمناسبة بين "القارعة" و"الفراش المبثوث "تتلمس في معاني الغرابة والتهويل:

ف"القارعة" مثير شديد للسمع،و"الناس كالفراش المبثوث" مشهد غريب يفاجيء البصر!!

كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ

قال الطبري: هو الذي يتساقط في النار والسراج، ليس ببعوض ولا ذباب.

قال الفراء: إنه الهَمَج الطائر، من بَعوض وغيره؛ ومنه الجراد.

قال ابن عاشور:"الفَراش: فرخ الجَراد حين يخرُج من بيضه من الأرض يَركب بعضه بعضاً وهو ما في قوله تعالى: {يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} [القمر: 7]. وقد يطلق الفراش على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار ليْلاً وهو إطلاق آخر لا يناسب تفسيرُ لفظ الآية هنا به".

وادعاء ابن عاشور-رحمه الله- أن لا مناسبة فيه نظر، فكأنه غفل عن "نار حامية"التي هي آخر ما يقرع الأذن في السورة!

والمناسبة قوية جدا لأن من شأن الفراش التهافت على النار وهو نفسه ذكر هذا المعنى.

وارتباط الفراش بالنار كثير في كلامهم .. فالطبري في كلامه السابق جعل التساقط في النار من مقومات حد الفراش.

قال قتادة (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) هذا الفراش الذي رأيتم يتهافت في النار.

قال جرير:

إن الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلى

قال في الصحاح:

والفَراشَةُ: التي تطير وتهافتُ في السِراج. وفي المثل: أطْيَشُ من فراشَةٍ "

وذكر الألوسي أنه قيل:

هو طير رقيق يقصد النار ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق.

وأحسن من كل هذا مارواه مسلم رحمه الله:

4235 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا. صحيح مسلم - (ج 11 / ص 399)

فتشبيه الناس بالفراش في سياق ذكر النار الحامية مناسب كما ترى ...

وقد جاء القرطبي رحمه الله بتفصيل بديع فميز الفراش عن الجراد ثم جمع بين التشبيهين: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] و {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] فقال:

فأوّل حالهم كالفَراش لا وجه له، يَتَحيَّرُ في كل وجه، ثم يكونون كالجراد، لأن لها وجهاً تقصده"

وهي لمسة بلاغية دقيقة!!

تتمة التفسير بعد حين إن شاء الله ...

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير