[حكاية الإمام الجرصفي]
ـ[إبراهيم أبو الحسوس]ــــــــ[19 - 03 - 06, 02:00 ص]ـ
كتب عبد الله عيسى السلامة في موقع "رابطة أدباء الشام ( http://www.odabasham.net/show.php?sid=6464)"
كنا مجموعة من الشباب، تتراوح أعمارنا بين الثلاثين، والخامسة والثلاثين .. وأكثرنا من حملة الشهادات الجامعية .. وكانت لنا سهرة أسبوعية، شبه دورية، نتحدث فيها عن ذكرياتنا .. وعن أيام الدراسة .. وعن أحوال المجتمع .. وغلاء المواد التموينية .. والثقافة والأدب .. والخطوبة والزواج .. وسائر ما يعن لنا من خواطر وأفكار تناسب سهرة مثل سهرتنا تلك. وكنا نتناول، خلال أحاديثنا الشاي والقهوة .. وبعض الفواكه والمرطبات .. مما يتيسر في بيت المضيف، صاحب الدور في استضافة السهرة. وحين لا نجد مادة مسلية للحديث، كنا نستعيد بعض القصص والطرائف التي سمعناها من قبل، فنضحك لسماعها، برغم كثرة ترددها في مسامعنا .. وأكثر ما كنا نستعيده ونطرب لسماعه، هو تلك الحكاية القصيرة اللطيفة، التي كان يرويها لنا صديقنا المرح الودود "أبو بشار" .. والتي كانت تروى لنا، في كل مرة، بأسلوب طريف، فيه روح جديدة من المرح والدعابة .. وفي السهرة الأخيرة التي سهرناها معاً، شعرنا بالحاجة إلى الدعابة والمرح، فطلبنا من صاحبنا "أبي بشار" أن يروي لنا الحكاية.
اعتدل في جلسته، وتنحنح وقال مقطباً بأسلوب فكاهي محبّب:
كان يا مكان يا قديم يا زمان ..
قاطعه أبو العمرين قائلاً: ما هذا يا أبا بشار .. ؟ في المرة الماضية لم تبدأ الحكاية بجملة "كان يا مكان" .. !
وتابع أبو السعود مازحاً: وفي المرة ما قبل الماضية لم تقطب جبينك يا أبا بشار.
وقال أبو الرجا: وفي بداية الشهر الماضي، رويت لنا الحكاية دون أن تتنحنح يا شيخنا الإمام.
وتبعه أبو العدل قائلاً: وفي منتصف السنة قبل الماضية رويت لنا الحكاية وأنت مضطجع على جنبك الأيسر، فما الذي جدّ حتى اعتدلت في جلستك اليوم ..
وحين انتهت تعليقات الأصدقاء، قال أبو بشار متصنعاً الجدّ: لقد قررت التطوير، وهذا مما لم تألفوه .. فأرجو عدم المؤاخذة.
قال أبو السعود: تطوير ماذا يا أستاذنا الجليل؟
قال أبو بشار: تكنولوجيا الحكي.
انفجر الجميع بضحك عالٍ، وظل أبو بشار مقطباً. حتى إذا انتهت موجة الضحك، قال بما يشبه الأسى: الحق عليّ، لأنني أتحدّث مع أناس جهلة، لا يعرفون أن للحكي تكنولوجيا قابلة للتطوير، كسائر أنواع الصناعات والفنون.
قال أبو العمرين بصوت مرتفع: يكفي يا أبا بشار يكفي .. نعرف سحباتك. هات اسمعنا الحكاية، ولا تضيّع علينا السهرة.
قال أبو بشار: لن أبدأ الحكاية، حتى تسحب كلمة "سحباتك"
قال أبو العمرين: سحبتها .. فتفضّل.
قال أبو بشار جاداً مقطباً: كان يا مكان –وممنوع التعليق الجانبي- كان ثمة مجموعة من طلبة الجامعة، قسم اللغة العربية، يتدارسون النحو في بيت استأجروه لسكنهم ودراستهم .. وكان الوقت قريباً من منتصف الليل. جاع الطلبة بعد وقت طويل من الدراسة المركزة. فتدارسوا أمر الطعام، ثم قرروا بعد مناقشة مطوّلة، حسم الأمر بتوجه أحدهم إلى محلّ الفوال أبي العطا، الذي عودهم على أطباق فوله الشهية، في كل الأوقات، ولا سيما بعد منتصف الليل، فمحله مفتوح ليلاً نهاراً لخدمة زبائنه الكرام.
غاب صديقهم أبو العمرين، ذو الهمة العالية، دقائق معدودة، ثم عاد إليهم، وبخار الفول الشهي ينبعث من أمام صدره، ليستقر في تلافيف الأدمغة المتلمظة، ولتهجم عليه الأيدي في معركة شرسة حامية الوطيس.
بعد القضاء التام على آخر فولة في الطبق الواسع، جلس القوم يشربون الشاي .. ومع الشاي مسائل النحو المعقدة، في الكتاب القديم الذي قررته عليهم الكلية ..
كان أبو بشار يقرأ في نسخة بين يديه، والآخرون يتابعونه، وأمام كل منهم نسخة من الكتاب .. باستثناء أبي العَدل، الذي آثر أن يتكئ قليلاً بعد أن وجد ذهنه مكدوداً، وقدرته على الاستيعاب ضعيفة. إلا أنه ظلَّ يشاركهم في السماع، دون أن يشاركهم في الدراسة والمناقشة.
كان الفول قد أخذ مأخذه من الرؤوس والعيون والأبدان، إضافة إلى الجهد المتواصل عبر ساعات عدة.
قرأ أبو بشار إعراب مجموعة من المفردات المنتظمة في إحدى الجمل، ثم قرأ إعراب الجملة قائلاً: "وهذه الجملة في محل جَرْصَفَةٍ .. ". وتوقف .. ونظر إلى أصحابه، ونظروا إليه.
¥