بعد هذه الجولة القصيرة .. بين المواضعة والاستعمال .. وهما مفهومان لا لا بد من تصورهما لفهم المجاز ... نعود الى ما بني على المواضعة من افتراض "المجاز" .... فقد يقال .. هب المواضعة مجرد افتراض .. فهل هذا مدعاة الى انكار المجاز ... لاننا نجد فى كل العلوم .. مباديء ومسلمات ... بعضها غير مبرهن عليها ... فقد بنيت هندسة اقليدس مثلا على افتراض المكان مستويا ... وبنى غيره هندسة اخرى على افتراض المكان مقعرا .... فهلا تعاملتم مع انصار المجاز .... كما تعامل "ريمان" و"لو باتشفسكي"مع اقليدس ... لا احد ينكر على الآخر ... قلنا هيهات ... لان الشرط المعتبر عند فقهاء العلم هو انسجام النظرية الداخلي ..... وهذا مفقود فى نظرية المجاز ...... واليكم التفصيل:
القول بالمجاز .. فرع عن القول بالحقيقة ... عند القائلين بالمجاز .. :فقال بعضهم الحقيقة اصل للمجاز وقال بعضهم هي كالاصل للمجاز .. ولكنهم اتفقوا جميعا على ثنائية حقيقة/مجاز ...
لكن الكارثة ... ان القول بالمجاز يلغي الحقيقة فى آخر المطاف ... فيكر الفرع على الاصل بالابطال ...
وبتعبير آخر يصبح المجاز"غولا"يلتهم كل اللغة ... بحقائقها وغيرحقائقها ... وممن انتبه الى هذه الآفة ابن جني .. فى كتابه الخصائص .... مع التنبيه الى ان ما سميناه نحن "آفة" ليست عند ابن جني .. الا امرا طبيعيا .. لذلك صرح بكل شجاعة .. جل اللغة مجاز ... ومع ان رأيه هذا لم يتابعه عليه احد ... بل عده البيانيون رأيا متطرفا .. كتطرف من ينفى المجاز اصلا ... لكن الحقيقة ان رأي ابن جني لازم للجميع .... شاؤوا ام ابوا .... فلنقف بعض الوقفات مع هذا النص المشهور لابن جني -رحمه الله-:
اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة. وذلك عامة الأفعال نحو قام زيد وقعد عمرو وانطلق بشر وجاء الصيف وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية فقولك: قام زيد معناه: كان منه القيام أي هذاجنس من الفعل ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام وكيف يكون ذلك وهو جنس والجنس يُطبق جميع الماضى وجميع الحاضر وجميع الآتى الكائنات مِن كل مَن وُجد منه القيام. ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد (في وقت واحد) ولا في مائة ألف سنةٍ مضاعفةٍ القيام كله الداخل تحت الوهم هذا محال عند كل ذى لبّ. فإذا كان كذلك علمت أن (قام زيد) مجاز لا حقيقة وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير. ويدل على انتظام ذلك لجميع جنسه أنك تُعمله في جميع أجزاء ذلك الفعل فتقول: قمت قومة وقومتين ومائة قومةٍ وقياما حسنا وقياما قبيحا. فإعمالك إياه في جميع أجزائه يدل على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها. وإنما يعمل الفعل من المصادر فيما فيه عليه دليل ألا تراك لا تقول: قمت جلوسا ولا ذهبت مجيئا ولا نحو ذلك لما لم تكن فيه دلالة عليه ألا ترى إلى قوله:
(لعمرى لقد أحببتك الحبَّ كله ... وزدتِك حبَّا لم يكن قبل يعرف)
فانتظامه لجميعه يدل على وضعه على اغتراقه واستيعابه وكذلك قول الآخر:
(فقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا)
فقوله (كل الظن) يدل على صحة ما ذهبنا إليه. قال لى أبو علي: قولنا: قام زيد بمنزلة قولنا خرجت فإذا الأسد ومعناه أن قولهم: خرجت فإذا الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس كقولك: الأسد أشد من الذئب وأنت لا تريد أنك (خرجت وجميع الاسد) التي يتناولها الوهم على الباب. هذا محال واعتقاده اختلال. وإنما أردت: خرجت فإذا واحد من هذا الجنس بالباب. فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازا لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه. أما الاتساع فإنك وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد. وأما التوكيد فلأنك عظمت قدر ذلك الواحد بأن جئت بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة. وأما التشبيه فلأنك شبهت الواحد بالجماعة لأن كل واحد منها مثله في كونه أسدا
وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر وانطلق محمد وجاء الليل وانصرم النهار. وكذلك أفعال القديم سبحانه نحو خلق الله السماء والأرض وما كان مثله ألا ترى - أنه عز اسمه - لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا ولو كان حقيقة لا مجازا لكان خالقا للكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا عز وعلا. وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضا لأنه ليست الحال التي علم
عليها قيام زيد هي الحال التي علم عليها قعود عمرو ... "انتهى كلامه.
¥