فهم بين امرين ... اما ان يدعوا ان الحروف كلها مجاز فهذا غلط .. لو كان المجاز ثابتا فإنها لم يسبق لها موضوع غير موضوعها الذى هي مستعملة فيه ... واما ان يقول ان توقف فهم معناها على القرينة لا يوجب لها ان تكون مجازا ... (كذا فى النسخة التى انقل منها .. ولعل الصواب يوجب لها ان تكون مجازا ... او لا يوجب لها ان تكون حقيقة ... والمعنى مفهوم بلا ريب) فيقال لهم: هكذا الاسماء والافعال التي لها دلالة عند الاقتران ودلالة عند التجرد لا يؤدي توقف فهم معناها عند الاقتران على القرينة ان تكون مجازا .. وهل الفرق الا تحكم محض.؟
وعلى العموم فنظرية وضع الحروف .... تخبط فيها اللغويون والاصوليون كثيرا ......
هذه الاعتبارات كافية لاضعاف نظرية المجاز فى اللغة ... لكن عندما ندخل فى حسباننا النصوص الشرعية ... سيكون نفي المجاز واجبا شرعيا- ومن ثم اصبح البحث فى مسألة المجاز ليس من قبيل الترف او الرياضة الذهنية ... بل هو مطلوب شرعا - ... فالقول بأن "لا مجاز فى القرآن"يستجيب فى الحقيقة ... لنوعين من الاكراه: اكراه عام ... يتمثل فى اللوازم الباطلة من افتراض المجاز- وقد ذكرنا بعضها -واكراه خاص يتعلق ... بمسلمات المؤمن بالقرآن ..... من كونه لا يأتيه الباطل من اية جهة من الجهات ... والمجاز يحمل فى طياته "الكذب"لذا يتعين ابعاده عن النصوص الشرعية بكل قوة ....
وقبل الاستدلال على طبيعة المجاز من حيث الصدق والكذب ... نورد ادلة من يرى المجاز موجودا فى القرآن:
عمدة هؤلاء .... دليلان:
القرآن نزل بلغة العرب ... والمجاز اسلوب موجود فى العربية .... فلاضير من وجوده فى القرآن ....
اما الدليل الثاني .... فقد صاغه جلال الدين السيوطي فى "اتقانه "على الشكل التالي:
وأما المجاز فالجمهور أيضا على وقوعه فيه وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب والقرآن منزه عنه وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير وذلك محال على الله تعالى
وهذه شبهة باطلة ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن فقد إتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها ... "
لقد تصدى الشيخ الامين الشنقيطي .. للدليل الاول .. فنقضه فى رسالته "منع جواز المجاز":
"فإن قيل كل ما جاز فى اللغة العربية جاز فى القرآن لانه بلسان عربي مبين.
فالجواب: ان هذه كلية لا تصدق الا جزئية .... وقد اجمع النظار على ان المسورة تكذب لكذب سورها كما تكذب الموجهة لكذب جهتها. وايضاح هذا على طريقة المناظرة ان القائل به يقول المجاز جائز فى اللغة العربية فهو جائز فى القرآن .. ينتج من الشكل الاول المجاز جائز فى القرآن.
فنقول: سلمنا المقدمة الصغرى تسليما جدليا لان الكلام على فرض صدقها وهي قولنا المجاز جائز فى اللغة العربية .... ولكن لا نسلم الكبرى التى هى قوله: وكل جائز فى اللغة العربية جائز فى القرآن .. بل نقول بنقيضها ..... وهي قولنا بعض ما يجوز فى اللغة ليس بجائز فى القرآن فإذا تحقق صدق هذه الجزئية السالبة تحقق نفي الكلية الموجبة ...
فمن ذلك ما يسميه علماء البلاغة "الرجوع"وهو نوع من انواع البديع المعنوي ..... وحده الناظم بقوله:
وسم نقض سابق بلاحق*******لسر الرجوع دوم ما حق
فإنه بديع المعنى فى اللغة عندهم وهو ممنوع فى القرآن العظيم لأن نقض السابق فيه باللاحق انما هو لاظهار المتكلم الوله والحيرة من امر كالحب مثلا ثم ظهر انه ثاب له عقله وراجع رشده فينقض كلامه الاول الذي قاله فى وقت حيرته غير مطابق للحق كقول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ..... بلى وغيرها الارواح والديم
يقصد الشنقيطي-رحمه الله-ان "الرجوع "يقوم على ارتكاب خطإ ما ثم الرجوع عليه بالتصحيح ... ويرى ان مثل هذا لا يجوز فى القرآن ضرورة. وان استحسن فى كلام الشعراء ..
ومن هذا المشرب ايضا ... ما يسمى عندهم ب"حسن التعليل"ومعناه ايراد معنى وتفسيره تفسيرا طريفا شعريا مخالفا للواقع ولكنه مستحب للنفوس .. وحسن التعليل هذا ... انواع ضرب له الشنقيطى امثلة وحسبنا منها مثالا واحدا يبين المقصود .. قول ابي هلال العسكري:
زعم البنفسج انه كعذاره
حسنا فسلوا من قفاه لسانه ..
¥