تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي قوله (من علماء العربية) تزكيةٌ خفَّفَ منها سَوْقُها في مَعرِض إظهارِ الافتقار إلى الرب والاعترافِ بفضله وأنه صاحبُ المنِّ والعطاء ومجيئُها في سياق الاحتجاج على الشعوبية المبغضةِ للعربية والحانقةِ على أهلها.

وفي كلامه إشارةٌ إلى فضل العربية على سائر اللغات وانفرادها دونها بأشرف الخصال وأسنى الميزات وقد دلل على ذلك بما ذكره في معرض احتجاجه على الشعوبية من أن الله خصها وشرفها ورفع منارها بأن أرسل بها خيرة رسله وأنزل بها خير كتبه فيسر لها بذلك أسباب البقاء وجنبها عوارض الفناء بخلاف غيرها من اللغات التي اعتورتها عواملُ التقادم وشابتْها سُنَنَ التطور فصار المتأخر من العجم لا يفهم لغة من تقدمه إلا بوساطة قاموس أو تَرْجُمان.

ومن دلائل فضلها أن الله تعالى وصفها في كتابه الخاتم بأحسن النعوت وأبلغ الأوصاف فقال: " وإنه لتنزيلُ ربّ العالمين نَزَل بِهِ الرُّوح الأمين عَلَى قلبك لِتكُون من المُنذِرين، بلسانٍ عربيٍّ مبين "

قال ابن فارس رحمه الله: فوصَفه جلّ ثناؤه بأبلغ مَا يوصَف بِهِ الكلام وهو البيان، قال جلّ ثناؤه: " خَلَق الإنسان علَّمه البيان " فقدّم جلّ ثناؤه ذكر البيان عَلَى جميع مَا توحَّد بخلقه وتفرَّد بإنشائه، من شمسٍ وقمرٍ ونجمٍ وشجرٍ وغيرِ ذَلِكَ من الخلائق المحْكمة والنشايا المُتْقَنة. فلمّا خصَّ جلَّ ثناؤه اللسانَ العربيَّ بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصِرَةٌ عنه وواقعة دونه.

قال: وَقَدْ قال بعضُ علمائنا حين ذكر مَا للعرب من الاستعارة والتمثيل والقلب والتقدير والتأخير وغيرها من سنن العرب فِي القرآن فقال: ولذلك لا يقدر أحد من التراجم عَلَى أن ينقله إِلَى شيء من الألسنة كما نُقل الإنجيل عن السريانية إِلَى الحَبشية والرُّومية وترجمت التوراة والزَّبور وسائرُ كتب الله عزّ وجلّ بالعربية، لأن العجم لَمْ تتَّسع فِي المجاز اتساع العرب، ألا ترى أنك لو أردت أن تنقُل قوله جلّ ثناؤه: " وإما تخافَنَّ مِن قوم خِيانةً فانْبذْ إليهم عَلَى سواء " لَمْ تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ المؤدِّية عن المعنى الَّذِي أَوْدِعَتْه حَتَّى تبسُط مجموعها وتصِل مقطوعها وتُظهر مستورها فتقول: " إِن كَانَ بَيْنَك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضاً فأعلمهم أنّك قَدْ نقضت مَا شرطته لهم وآذِنْهم بالحرب لتكون أنت وهم فِي العلم بالنقض عَلَى استواء " وكذلك قوله جلّ ثناؤه: " فضربنا عَلَى آذانهم فِي الكهف ".

قال: ولو أراد معبّرٌ بالأعجمية أن يعبر عن الغنيمة والإخفاق واليقين والشكّ والظاهر والباطن والحق والباطل والمبين والمشكل والاعتزاز والاستسلام لعيّ بِهِ. والله جلّ ثناؤه أعلم حَيْثُ يجعل الفضل.

قال: وممّا لا يمكن نقْله البتَّةَ أوصافُ السيف والأسد والرمح وغير ذَلِكَ من الأسماء المترادفة ومعلوم أن العَجَم لا تعرف للأسد غير اسم واحد، فأما نحن فنُخرج لَهُ خمسين ومائة اسم.

وحدثني أحمد بن محمد بن بندار قال: سمعت أبا عبد الله بن خالَوَيْهِ الهمذاني " يقول: جمعت للأسد خمس مائة اسم وللحيَّة مائتين.

وأخبرني عليُّ بنُ أحمد بنِ الصبَّاح قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمه أن الرشيد سأله عن شعر ل ابن حزام العُكْلِيّ ففسره، فقال: " يَا أصمعي، إِن الغريب عندك لغَيْرُ غريب " فقال: " يَا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وَقَدْ حفظتُ للحَجَر سبعين اسماً؟ ". وهذا كما قاله الأصمعي. ولكافي الكفاة أدام الله أيامه وأبقى للمسلمين فضله - فِي ذَلِكَ كتاب مجرد فأين لسائر الأمم مَا للعرب؟ ومن ذا يمكنه أن يُعبّر عن قولهم: ذات الزُّمَيْن، وكَثْرَة ذات اليد، ويد الدهر، وتخاوَصَت النجوم، ومَجَّت الشمسُ ريقها، ودَرأ الفيءَ ومفاصل القول، وأتى بالأمر من فصِّه، وهو رَ حْب العَطَن، وغَمْرُ الرداء، ويخْلق، ويَفري، وهو ضيّق المَجَمّ قلِق الوَضِين، رابط الجأش، وهو ألْوى، بعيد المُسْتَمَرّ، وهو شراب بِأنقع، وهو جُذَيْلُها المحكَّك وعُذَيقُها المُرَجَّب، وَمَا أشبه هَذَا من بارع كلامهم من الإيماء اللطيف والإشارة الدّالة وَمَا فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب العالي أكثر وأكثر، قال الله جلّ وعزّ: " ولكم فِي القصاص حياة " و " يحسبون كلَّ صَيْحة عليهم "، و " وأُخرى لن تَقْدروا عَلَيْهَا قَدْ أحاط الله بِهَا " و " إِن يتّبعون إِلاَّ الظَّنَّ وإن الظن لا يُغني من الحقّ شيئاً " و " إنما بَغيكم عَلَى أنفسكم " " ولا يَحيقُ المكر السّيّئ إِلاَّ بأهله " وهو أكثر من أن نأتي عَلَيْهِ.

وللعرب بعد ذَلِكَ كَلِمٌ تلوح فِي أثناء كلامهم كالمصابيح فِي الدُّجى، كقولهم للجَموع للخير: قَثُوم، وهذا أمر قاتِم الأعماق، أسود النواحي، واقتحف الشرابَ كلّه، وَفِي هَذَا الأمر مصاعبُ وقُحَم، وامرأة حييّة قدِعة وتَقَادَعوا تقادُعَ الفراش فِي النار، وَلَهُ قَدَم صِدق، وذا أمر أنت أردته ودبّرته، وتقاذَفَتْ بِنَا النَّوى، واشْتَفَّ الشراب، ولك قُرعة هَذَا الأمر خياره، وَمَا دخلت لفلان قريعة بيت، وهو يَبْهَر القرينة إِذَا جاذبته، وهم عَلَى قرو واحد أي طريقة، وهؤلاء قَرَابينُ الملك، وهو قشع إِذَا لَمْ يثبت عَلَى أمر، وقشبه بقبيح لطخه وصبي قصِع لا يكادُ يشبّ وأقلت مَقاصِرُ الظلام، وقطَّع الفرسُ الخيلَ تقطيعاً إِذَا خلَّفها، وَلَيْسَ أقعَس لا يكاد يبرح، وهو منزول قفر.

وهذه كلمات من قرحة واحدة، فكيف إِذَا جال الطرف فِي سائر الحروف فجالَه؟ ولو تقصينا ذَلِكَ لجاوزنا الغرض ولما حوته أجلادٌ وأجلاد. انتهى كلامه رحمه الله بتصرف من كتاب الصاحبي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير