إذا هَبَّتْ رياحُك فاغتنمها **** فعقبى كلِّ خافقة سكون.
ولا تَغْفُل عن الإحسان فيها **** فما تدري السكون متى يكون؟
يحج ماشيا من غرب إفريقيا الى الكعبة سيرا!!!
الشيخ الحاج عثمان دابو - رحمة الله – من جمهورية جامبيا في أقصى الغرب الإفريقي، تجاوز الثمانين من عمره،
يحدثنا عن رحلته الطويلة قبل خمسين عاماً إلى البيت العتيق، ماشياً على قدميه مع أربعة من صحبه من بانجول إلى مكة قاطعين قارة إفريقيا من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فترات يسيرة متقطعة على بعض الدواب، إلى أن وصلوا إلى البحر الأحمر ثم ركبوا السفينة إلى ميناء جدة.
رحلة مليئة بالعجائب و المواقف الغريبة التي لو دوّنت لكانت من أكثر كتب الرحلات إثارة و عبرة، استمرت الرحلة أكثر من سنتين، ينزلون أحياناً في بعض المدن للتكسب و الراحة و التزود لنفقات الرحلة، ثم يواصلون المسير.
أصابهم في طريقهم من المشقة و الضيق و الكرب ما الله به عليم؛
فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون؟! وكم من ليلة طاردتهم السباع، وفارقهم لذيذ النوم؟!
وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان؛
فقطاع الطرق يعرضون للمسافرين في كل واد؟!
تسأله: أليس حج البيت الحرام فرض على المستطيع،
و أنتم في ذلك الوقت غير مستطيعين؟!
قال: نعم ولكننا تذكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل – عليه الصلاة والسلام – عندما ذهب بأهله إلى واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم،
فقال أحدنا: نحن الآن شباب أقوياء أصحاء فما عذرنا عند الله – تعالى – إن نحن قصّرنا في المسير إلى بيته المحرم، خاصة أننا نظن أن الأيام لن تزيدنا إلا ضعفاً، فلماذا التأخير؟!
خرج الخمسة من دورهم، وليس معهم إلا قوت يكفيهم لأسبوع واحد فقط،
رب ليل بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه.
قال الشيخ عثمان: لدغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمّى شديدة و شممت رائحة الموت تسري في عروقي!!
فكان أصحابي يذهبون للعمل، و أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار، فكان الشيطان يوسوس في صدري:
أما كان الأولى لك أن تبقى في أرضك؟!
لماذا تكلف نفسك ما لا تطيق؟!
ألم يفرض الله الحج على المستطيع فقط؟!
فثقلت نفسي وكدت أضعف،
فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفت عنه ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس ما بي! فقال: قم فتوضأ و صلّ، ولن تجد إلا خيراً بإذن الله
(واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) [البقرة: 45، 46].
فانشرح صدري، و أذهب الله عني الحزن، ولله الحمد.
كان الشوق للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدوهم في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره،
مات واحد منهم في الطريق، ثم مات الثانى.
ثم الثالث الذى مات في عرض البحر،
واللطيف في أمره أن وصيته لصاحبيه قال لهما فيها:
إذا وصلتما إلى المسجد الحرام، فأخبرا الله – تعالى – شوقي للقائه، واسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي (صلى الله عليه وسلم)
يعلو على الموت من تسمو إرادته **** وفي عزيمته صدق وإيمان
قال الشيخ عثمان:
لما مات صاحبنا الثالث نزلني همّ شديد وغمّ عظيم،
وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي؛ فقد كان أكثرنا صبراً وقوة،
وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيام والساعات على أحر من الجمر.
فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً وخشيت أن أموت قبل أن أصل إلى مكة المكرمة، فأوصيت صاحبي أنني إذا مت أن يكفنني في إحرامي،
ويقربني قدر طاقته إلى مكة، لعل الله أن يضاعف لي الأجر، ويقبلني في الصالحين.
أنا الفقير إلى رب البريات *- * أنا المسيكين في مجموع حالاتي.
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي *- * والخير إن يأتنا من عنده يأتي.
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة *- * ولا عن النفس لي دفع المضرات.
مكثنا في جدة أياماً، ثم واصلنا طريقنا إلى مكة،
كانت أنفاسي تتسارع والبشر يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني، إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام.
وسكت الشيخ قليلاً .. وأخذ يكفكف عبراته، وأقسم بالله – تعالى – أنه لم ير لذة في حياته كتلك اللذة التي غمرت قلبه لما رأى الكعبة المشرفة!
ثم قال: لما رأيت الكعبة سجدت لله شكراً، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فما أشرفه من بيت وأعظمه من مكان!
ثم تذكرت أصحابي الذين لم يتيسر لهم الوصول إلى المسجد الحرام، فحمدت الله – تعالى – على نعمته وفضله عليّ، ثم سألته – سبحانه – أن يكتب خطواتهم وألا يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إقبال جاد على الطاعة، وإقبال لا يعرض عليه التكاسل أو التسويف، إقبال تهون فيه الآلام والأكدار،
إقبال تتساقط تحته كافة العراقيل والعقبات .. إقبال بهمة صادقة وعزيمة عالية تنبع من قلب متعلق بمحبة الله والامتثال لأمره.
فسبحان القائل:
(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) [الحج: 27].
تأمل في حال كثير من المسلمين ممن تحققت فيهم الشروط الشرعية الموجبة لحج بيت الله الحرام، ومع ذلك يسوفون عن الحج متباطئين .. !
ألا يتذكر أولئك قول النبي (صلى الله عليه وسلم) " من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي ......... ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ.
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي ........... وأطمعُ منك في الفضلِ الكبيرِ.
إلهي ما سألتُ سواك عونا ...... فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ.
إلهي ما سألتُ سواك عفوا ..... فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ.
إلهي ما سألتُ سواك هديا ..... فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ.
إذا لم أستعن بك يا الهي ...... فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ.
صفحة بيضاء
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي قال:
من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"
اللهم ارزقنا حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة.
فاضت بي الأشواق .. أضناني الحنين ... نحو المدينة دار خير المرسلين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه
أبو مسلم / وليد برجاس
¥