وكذلك الآدميون، فالمولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه أو من يربيه ينطق باللفظ ويشير إلى المعنى فصار يفهم أن ذلك اللفظ يستعمل في ذلك المعنى أي: أراد المتكلم به ذلك المعنى ثم هذا يسمع لفظًا بعد لفظ حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم، بل ولا أوقفوه على معاني الأسماء وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأشياء فيوقف عليها كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معاني ألفاظها وإن باشر أهلها مدة علم ذلك بدون توقيف من أحدهم.
نعم قد يضع الناس الاسم لما يحدث مما لم يكن من قبلهم يعرفه فيسميه كما يولد لأحدهم ولد فيسميه اسما إما منقولا وإما مرتجلا وقد يكون المسمى واحدا لم يصطلح مع غيره وقد يستوون فيما يسمونه.
وكذلك قد يحدث للرجل آلة من صناعة أو يصنف كتابا أو يبني مدينة ونحو ذلك فيسمي ذلك باسم لأنه ليس من الأجناس المعروفة حتى يكون له اسم في اللغة العامة. وقد قال الله: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: 1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2] {خَلَقَ الْإِنسَانَ} [الرحمن: 3] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4]. و {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]. وقال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3]. فهو سبحانه يلهم الإنسان المنطق كما يلهم غيره.
وهو سبحانه إذا كان قد علم آدم الأسماء كلها وعرض المسميات على الملائكة كما أخبر بذلك في كتابه فنحن نعلم أنه لم يعلم آدم جميع اللغات التي يتكلم بها جميع الناس إلى يوم القيامة وأن تلك اللغات اتصلت إلى أولًاده فلا يتكلمون إلا بها فإن دعوى هذا كذب ظاهر فإن آدم عليه السلام إنما ينقل عنه بنوه وقد أغرق الله عام الطوفان جميع ذريته إلا من في السفينة وأهل السفينة انقطعت ذريتهم إلا أولًاد نوح ولم يكونوا يتكلمون بجميع ما تكلمت به الأمم بعدهم.
فإن [اللغة الواحدة] كالفارسية والعربية والرومية والتركية فيها من الاختلاف والأنواع ما لا يحصيه إلا الله , والعرب أنفسهم لكل قوم لغات لا يفهمها غيرهم فكيف يتصور أن ينقل هذا جميعه عن أولئك الذين كانوا في السفينة وأولئك جميعهم لم يكن لهم نسل وإنما النسل لنوح وجميع الناس من أولًاده وهم ثلاثة: سام وحام ويافث كما قال الله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين}. فلم يجعل باقيا إلا ذريته وكما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: [أن أولاده ثلاثة]. رواه أحمد وغيره.
ومعلوم أن الثلاثة لا يمكن أن ينطقوا بهذا كله ويمتنع نقل ذلك عنهم، فإن الذين يعرفون هذه اللغة لا يعرفون هذه , وإذا كان الناقل ثلاثة، فهم قد علموا أولًادهم , وأولادهم علموا أولادهم , ولو كان كذلك لاتصلت.
ونحن نجد بني الأب الواحد يتكلم كل قبيلة منهم بلغة لا تعرفها الأخرى والأب واحد , لا يقال: إنه علم أحد ابنيه لغة وابنه الآخر لغة، فإن الأب قد لا يكون له إلا ابنان واللغات في أولاده أضعاف ذلك.
والذي أجرى الله عليه عادة بني آدم أنهم إنما يعلمون أولادهم لغتهم التي يخاطبونهم بها، أو يخاطبهم بها غيرهم فأما لغات لم يخلق الله من يتكلم بها فلا يعلمونها أولادهم.
وأيضًا فإنه يوجد بنو آدم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم. والعلماء من المفسرين وغيرهم لهم في الأسماء التي علمها الله آدم قولان معروفان عن السلف.
[أحدهما]: أنه إنما علمه أسماء من يعقل واحتجوا بقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} [البقرة: 31]. قالوا: وهذا الضمير لا يكون إلا لمن يعقل , وما لا يعقل يقال فيها: عرضها. ولهذا قال أبو العالية: علمه أسماء الملائكة لأنه لم يكن حينئذ من يعقل إلا الملائكة، ولا كان إبليس قد انفصل عن الملائكة ولا كان له ذرية.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: علمه أسماء ذريته وهذا يناسب الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته، فرآهم فرأى فيهم من يبص. فقال: يا رب من هذا؟ قال: ابنك داود). فيكون قد أراه صور ذريته أو بعضهم وأسماءهم وهذه أسماء أعلام لا أجناس.
¥