تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فلا شكّ أنّ علم التّفسير من العلوم المقصودة لذاتها ولغيرها، فهو ليس علما من علوم الآلة، وذلك لأنّ الله تعالى أمر بتدبّر كتابه، فقال: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) [محمد:24]، فكلام الله تعالى هو ينبوع كلّ حكمة، ومعدن كلّ فضيلة، وهو لا يزال المصدر الأوّل لكلّ علم من علوم الدّنيا والآخرة، ولذلك نجد أنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا يحرصون كلّ الحرص على الجمع بين حفظ القرآن وفهمه.

روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.

فلذلك روى الإمام مالك في " الموطّأ "- لكن بلاغا - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا.

فإن صحّ ذلك، فإنّما ذلك طلبا لفقهها، فلا يجاوز آية إلى غيرها دون فقه وفهم.

وروى مالك أيضا وغيره أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ لِأحدهم: (إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ .. وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ).

وفي الصّحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رجلا قال له: " إنيّ أقرأ المفصّل في ركعة واحدة "، فقال:" هذّاً كهذّ الشّعر، إنّ قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع".

وأخرج الآجرّي في " أخلاق حملة القرآن " عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضا قال: " لا تنثروه نثر الدّقل، ولا تهذّوه هذّ الشّعر، قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكون همّ أحدكم آخر السّورة ".

وذُمّ الخوارج بسبب أنّهم يتلون كلام الله دون أن يصل إلى قلوبهم فيعقلوه، كما في الحديث المتّفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ)).

ولذلك أكّد العلماء على أنّ قراءة القرآن ينبغي أن تكون بالتدبّر والتفهّم، فهو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهمّ، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى: ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه)).

قال النّووي في "شرح المهذّب":

" وصفة ذلك، أن يشغل قلبه بالتّفكير في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كلّ آية ويتأمّل الأوامر والنّواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان ممّا قصّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب، أخرج مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال:" صلّيت مع النبيّ ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم النّساء فقرأها، ثمّ آل عمران فقرأها، يقرأ مترسّلا، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ."

وأخرج التّرمذي والحاكم عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة " الرّحمن "، من أوّلها إلى آخرها، فسكتوا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ عزّ وجلّ: ((فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) قَالُوا: " وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الحَمْدُ)).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " (13/ 332):

" ومن المعلوم أنّ كلّ كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرّد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك، وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فنّ من العلم كالطبّ والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله الّذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟ .. ".

فعلم التّفسير جانب كبير من جوانب تدبّر كلام الله تعالى.

ولنا لقاء آخر إن شاء الله نرى من خلاله آداب وشروط المفسّر.

وسبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

[ i] (http://www.manareldjazair.com/mambots/editors/fckeditor/editor/fckblank.html#_ednref1) هذا يجري على قول من يرى أنّ لفظ (القرية) لا يطلق إلاّ على المكان المجتمع فيه، أمّا من يرى أنّه يطلق أيضا على الأشخاص فلا حذف لديه، كما في " بدائع الفوائد ".

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير