ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[15 - 11 - 07, 03:52 م]ـ
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} يونس22
2 - التصوير
تنبيه:
الصورة لا تنطبع في الخيال،ولا تثير النفس، إلا عند اعتبارها في كليتها والوعي بها كشيء عضوي متجانس، لكن التحليل يقتضي منهجيا إرجاع الكل إلى عناصره فنعتذر عن هذه التجزيئية التي لا مناص منها والتي للاسف الشديد تفقد الصورة طراوتها ...
1 - المشهد زاخر بالحركة:
-حركة خارجية:
فكل شيء محكوم هنا بالحركة والانتقال في الفضاء:
أ-سير الناس في البر والبحر.
ب-جري الفلك على الماء.
ج-هبوب الريح طيبة ثم عاصفة.
د-مجيء الموج من كل مكان.
-هذه الحركة الخارجية يوازيها حركة داخلية هي نبض القلب مع تعاقب الحالات عليه ..
أ-حالة الاستبشار والفرح في بداية الرحلة.
ب-حالة الشك والسؤال عند تغير حال البحر.
ج-حالة الياس التام من الحياة واليقين بالهلاك.
د-حالة ارتفاع القلب بالدعاء تحت سياط غريزة الرغبة في البقاء.
2 - مشهد حرب وحصار:
جاءتها ... جاءتهم ... أحيط بهم.
كلمة"الإحاطة "مرتبطة في الوجدان العربي بأجواء الحروب والغارات.
قال القرطبي مذكرا بالاصل الحماسي للكلمة:
"وأصل هذا أن العدوّ إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله".
قال الألوسي مرجعا الاستعارة إلى أصلها:
"وقيل: إن الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيهاً له بإحاطة العدو بإنسان ثم كنى بتلك الاستعارة عن الهلاك لكونها من روادفها ولوازمها ".
وقال ابن عاشور:
"فالعرب يقولون: أحاط العَدو بالقبيلة إذا تمكن منها وغلبها، لأن الإحاطة بها تدل على الإحداق بها وتطويقها. ولما كان ذلك هزيمة وامتلاكاً لها صار ترتيب {أحيط بهم} استعارة تمثيلية للهلاك".
من شأن التعبير بالإحاطة إذن أن توجه المتلقي إلى استحضار صورة المعركة وأن يؤول الريح والموج وفق تشاكل /حرب/ ...
وقد كان البيان الباهر معجزا عندما خالف بين المفعولين:
فالريح جاءت الفلك ..
والموج جاء الناس.
فما أشبه العنصرين بفيلقين وزعا المهام بينهما ففيلق تكلف بتدمير العتاد وفيلق تكلف بتدمير العدد! وكل ميسر لما خلق له ...
ومعنى التدبير والتخطيط يؤكده" تشخيص" العنصرين و"تعقيلهما"فالريح والموج لهما مجيء –هي الإرادة إذن! -ولهما من وراء المجيء قصد-هي الحكمة إذن! -.
وفي الترتيب معنى بديع أيضا:
مجيء العاصفة أولا لتدمير "المحل" ثم الموج بعد ذلك لتلقي "الحالين "المنكوبين ..
ونلحظ- في عبورنا- قيد "مِن كُلِّ مَكَانٍ"الذي ينبيء بإحكام الحصار حول العدو.
3 - مشهد ومسمع ..
الصورة القرآنية تستثير الذاكرة السمعية عند المتلقي كما استثارت الذاكرة البصرية فيصبح رائيا سامعا:
-صرير الريح العاصفة في البحر.
-خفقان الأشرعة ..
-هدير الموج العاتي.
-صراخ المنكوبين بالدعاءالمتواصل.
4 - الهلاك غرقا وإخلاص التوحيد ..
مقصد الآية أن تحمل الإنسان على التوحيد الخالص .. لذا اختارت مشهد الغرق دون غيره من المشاهد التي تعبر عن الهلاك ... ولن تجد في غير هذه الصورة ما يسد كل الطرق الشركية حقيقة أو توهما ...
لك أن تقارن مثلا بين صورة الهلاك البحرية في آيتنا هذه وصورة الهلاك البرية (في الصحراء مثلا أو في معركة خاسرة) لتلمس الفرق الكبير:
هنا أمران للاعتبار:
-الموج يسد كل الاتجاهات ...
-الغرق تهديد للتنفس .. والحاجة إلى التنفس سريعة جدا.
القرآن قال: وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ"
لماذا "من كل مكان" مع أن موجة واحدة- من مكان واحد- كفيلة بإغراقهم جميعا؟
إن الآية لها مقصد أعظم من تحديد سبب الهلاك ....
عندما يأتي الخطر الماحق من جهة فإن الإنسان على نحو غريزي يلتفت إلى جهة أخرى بحثا عن مفر أو غوث ...
"وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ"
عبارة سدت كل المنافذ الممكنة .. فلم يترك الموج للخيال فسحة أن يتصور جهة ما منها تأتي إغاثة ولو على سبيل الفرض والوهم ...
فلم يبق إلا التوحيد ...
وبتأمل الأمر الثاني تتضاعف الحاجة إلى التوحيد ..
الموج يهلك بسرعة .. والمسألة معدودة بالثواني!
فالحاجة ملحة إلى منقذ أسرع من العاصفة ويتجاوز الحصار المضروب من قبل الموج .. فأين يمكن تصور أو توهم هذا المنقذ؟
فلم يبق مرة أخرى إلا التوحيد.
هذه المعاني لا يمكن أن تتقرر لو كان الهلاك في الصحراء مثلا: فللوهم أن يتخيل قافلة ممكنة آتية على غير توقع ... كما أن الهلاك جوعا أو عطشا ليس سريعا -مثل الغرق-وأثناء الموت البطيء يمكن للإنسان أن يمني نفسه أو يوهمها بقادم أو عابر ...
5 - صورة-فكرة-شعور
تصوير المشهد بالخيال، تقرير فكرة التوحيد بالعقل، وتفجير الاحاسيس في النفس:
-المشهد لا ينفك عن الشعور بالرعب بوضع الإنسان الهش الضئيل في إطار العناصر الطبيعية الشديدة:
عاصفة، موج، خضم ..
-المشهد لا ينفك عن الشعور بالتوتر: فالموت لم يحصل بعد لكنه يجيء في صورة الموج شيئا فشيئا .. يجيء ولا يصل ليشتد الترقب والانتظار .. وليس أقسى من انتظار الموت الحتمي.
-المشهد لا ينفك عن الشعور بالضياع ... فمن يسمع هؤلاء المنكوبين ومن يراهم وهم في غيابات البحر العظيم ..
-المشهد لا ينفك عن اتجاه القلب –رغما عنه-في الوجهة الصحيحة ..
ليس إلا الله يرى ويسمع ولا يعجزه شيء في البر ولا في البحر ... !
سبحانك إنا كنا من الظالمين.
¥