الأول: استعمال على جهة الحقيقة؛ ومعناه: (يجوزُ ويمكنُ) أو (ربما) أو (لعلَّه). ومنه قولُ الجاحظِ في الحيوانِ: (ينبغي أن يكون قد نزعت بك حاجة؛ فإن شئتَ فأقم بمكانك شهرًا أو شهرينِ)، وقالَ: (وقد كان ينبغي في قياسكُمْ هذا لو قال: حُرِّمت عَلَيْكُمُ الميتَةُ والدَّم وشَحْم الخنزير، أن تحرِّموا الشحم، وإنَّما ذكر اللَّحم، فلِمَ حرّمتم الشحم؛ وما بالُكُمْ تحرِّمونَ الشّحم عند ذكْر غيرِ الشّحم؛ فهلاّ حرَّمتم اللَّحم بالكتاب، وحرَّمتم ما سِواه بالخبر الذي لا يُدْفَع؟).
الثاني: غيرُ جارٍ على حقيقة الكلمةِ في العربيةِ؛ وإنما هو مجازٌ.
وتأويلُه أنك إذا قلتَ: (ينبغي للمسلم أن يتقيَ ربَّه) كانَ معنى كلامِك على الحقيقةِ (يستطيع المسلِمُ أن يتقيَ ربَّه ويقدِر على ذلك). تريدُ (وإذا كانَ قادرًا على ذلك فليفعلْ) فهو كنايةٌ عن الأمرِ مركَّبةٌ. ولا أعلمُ البلاغيينَ ذكروها. والحقُّ ذكرُها. وليسَ صوابًا ما يزعمونَ من أنَّ نحوَ هذا مجاز مرسلٌ مركَّبٌ، علاقتُه الملزومية؛ فإن المجازَ المرسلَ لا يرادُ به المعنى الحقيقيّ، على خلافِ الكنايةِ؛ فالمعنيانِ الحقيقيّ والمجازيّ لا يمتنعانِ فيها. ثم لو قلنا بأنه مجاز مرسل لكنا قد ذهبنا ببلاغة تلك الجملةِ؛ إذ إن غرضَها الحقَّ كراهيةُ التصريحِ؛ ولا سيما في الأمرِ؛ إذ يُكرَه توجيهه لذي الجاهِ والمنزلةِ؛ فكأنهم عدلوا عنه إلى الكنايةِ بذكر الخبر الذي يستلزمُ الأمرَ لا الأمرِ المباشِرِ.
---
فإن قلتَ: فما القرينةُ؟
قلتُ: إنه لما كثُر في كلامِهم: (لا ينبغي) بالمعنى المجازيّ – وذكرناه – كأنهم أحسّوا أن السامعَ يسأل: فما الذي ينبغي إذًا؟ كقولهم: لا ينبغي للمسلم أن يكونَ كذابًّا، ولا نمامًّا، ولا خوَّانًا. فيسأل السامعُ: فما الذي ينبغي؟ فيكون الجواب: ينبغي له أن يكونَ صدوقًا، ثقةً، عدْلاً، أمينًا. ثم غلبت في كلامِهم؛ حتى إذا قيلَ: ينبغي؛ أي: يمكنُ، عُلِم أنه يلزمُ من أُسنِد إليه أن يَّفعلَه.
فالقرينة إذًا حاليّةٌ من طريقِ حملِ الضدِّ على ضدِّه، ثم اتسعت حتى أصبحت حقيقةً عرفيةً؛ فلا تحتاجُ من بعدُ إلى قرينةٍ.
---
وعلمُ البلاغةِ من العلومِ التي لم تبيَّن للناسِ حقَّ التبيينِ، ولم يُكشف عن أسرارها؛ فقد جمَد منذ عهد الخطيبِ القزوينيّ؛ لم يُزد فيه، ولم يُنقَص.
الثالث: استعمالٌ مجازيٌّ؛ وذلك أنا وجدناهم ربما استعملوا (ينبغي) غيرَ دالٍّ على الأمر؛ وإنما دالاًّ على الوجوبِ من طريقِ المجازِ. والعَلاقة بينهما أنَّ الأمرَ يستلزمُ الوجوبَ استلزامًا وضعيًّا؛ فالعَلاقة المَلزوميةُ؛ فهو مجازٌ عن كنايةٍ.
ومنه قول صُحير بن عُمير (جاهلي)، وينسب لغيره:
ولم أُضِع ما ينبغي أن أفعلَهْ
الرابع: استعمالٌ مجازيٌ، وذلك حينَ يستعملونها بمعنى (يليق ويحسُن ويجمُل). وهو مجازٌ مرسَلٌ، عَلاقتُه السببيةُ. وذلك أن إمكانَ الشيء في الواقعِ سببٌ لكونِه لائقًا؛ فلا يَكونُ هذا إلا بهذا. وهذه العَلاقةُ مجرَّدةً ضعيفةٌ؛ ألا ترى أن السببيةَ هذه غيرُ مشتهرةٍ في العرفِ، ولا مُدرَكةٍ بالعقلِ. وإنما قوِيت بالقرينةِ الحاليةِ؛ حملوها على (لا ينبغي) حملَ الضدِّ على ضدِّه؛ فلما كانت (لا ينبغي) بمعنى (لا يليق)، وكان وجهُ حملِها على المجازِ بيِّنًا على خلافِ (ينبغي)، وكانَ لا يصِح حملُ الثانية على الأولى من غيرِ عَلاقةِ مجازٍ فيها، لما كانَ الأمرُ كذلك، ووجدوا في (ينبغي) وجهًا يسوِّغُ وقوعَ المجازَ، واستضعفُوا قرينتَه، حملوه على ضدّه (لا ينبغي)؛ وهو مذهبٌ لهم في الكلامِ.
---
وإنما فصَّلتُ القولَ في ذلك لأبيِّنَ أنْ ليس كلُّ تطورٍ دلاليٍّ مقبولاً؛ وإنما في ما كانَ مستوفيًا شروطَ القياسِ البلاغيِّ.
---
ونحن ذاكرونَ للاحتجاجِ لـ (ينبغي) بالإثباتِ عدةَ شواهدَ من الكلامِ الفصيحِ:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (إنْ نزلتم بقوم فأُمِر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا)) [رواه البخاري]. من الضرب الثالث.
وقالَ: (يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك) [رواه ابن ماجه]. من الضرب الرابع.
¥