فآية إبراهيم تحل مسألة وتفرض فرضاً، نقرأه بالمفهوم اللازم للنص، أنه إن كان كل رسول يرسل بلسان قومه، فيكون لسان القوم لسان نبيهم, وأرسل محمد عليه الصلاة والسلام الى الناس جميعاً, لزم أن يكون لسان الناس جميعاً, لسان نبي الناس جميعاً, محمد عليه الصلاة والسلام بلسانه العربي "الاُم", الذي أرسل به وأنزل به كلام الرب الذي خلق الناس جميعا!.
فهو بهذا أرسل بلسانهم "الأم" الذي كان عليه الناس أول ما كانوا, ثم تبدلت ألسنتهم واختلفت, فعليهم هم أن يرجعوا إلى لسانهم الأم, لسان نبيهم "الأم" محمد.
وليس بين كل إنسان مهما كانت لغته وعمرها وأمته وحضارتها, ليس بينه وبين لسان النبي "الأم" إلا أم هذا الانسان وأبوه, فإن نشأ الغلام الصيني مثلاً بين العرب تكلم بلسانهم كواحد منهم بلا خلاف, دون أن يكون لخمسة آلاف سنة من حضارة قومه شأن ولا مانع.
وفي القرآن شاهد على ما نقول، فالقرآن لا يُقر إلا "لسانين" إما عربي أو أعجمي، فكل الألسن على اختلافها ما لم تكن عربية فهي أعجمية، والأعجمي هو الذي لا يُبين ولا يُفصّل. "والعربي" لغة: ما أبان وفصّل, وهذا ظاهر نصوص القرآن.
وآية سورة "فصلت" تفصل هذا بوضوح، {ولو جعلناه قرآناً أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته، أأعجمي وعربي}، فالأعجمي بنص الآية غير مفصَّل ولا مفصِّل، إنما هاتان الصفتان للسان" العربي, {ولقد نعلم انهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين}، فالأعجمي لا يبين، إنما العربي هو المفصل المبين, {حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون}.
ولعل هذا الفهم أيضاً بخصوص الفرق بين العربي والأعجمي, قد يحل مشكل آية فصلت، {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته، أأعجمي وعربي}. فكل من ينظر في التفسير يجد خلافاً في التأويل لا يكاد يشفي سائلاً ولا مستفسراً, أما بهذا الفهم فيمكن حل مشكِلها، فالعربي هو المفصل فقط، فلا يكون أعجميا ومفصلاً، لتفهم الآية بعدها هكذا: "ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته, أأعجمي "ومفصل"؟! , فلا يطلب التفصيل في ما أعجم؛ إنما العربي هو المفصل!.
ولسان العرب حجة لما نقول، فيقال: رجل مُعرِب إذا كان فصيحاً مبيناً, وإن كان عجمي النسب, والإعراب هو الإبانة، ولمن أراد الاستزادة أن يرجع للأصول!.
بهذا يصبح "الرسول النبي الأمّي" واجب الأتباع بهذه الأركان الثلاثة, أمّية الرسالة والنبيين وإمامتهم، و"أمّية" الأرض والمنشأ في أم القرى، وأمّية اللسان واللغة، فهو للناس جميعا بلسانهم "الأم" وإن تبدلوا بها أي لغة كانت فهذا لسانهم "الأم" أولى بهم أن يتعلموه وأن يرجعوا له، وهذه أرضهم "الأم" وبيت أبيهم الأول.
بهذه الثلاث يصبح الرسول النبي "الأمّي" ملزم الإتباع واجب القبول.
ولنا اليوم -بهذا الفهم لا بالفهم السابق- أن ندعو أهل الكتاب والناس جميعاً لاتباعه, فهو نبيهم "الأم" بكل ما في الكلمة من معاني.
وقد يسأل سائل، إذا كانت من "أمّية" محمد عليه الصلاة والسلام إمامته للناس وللنبيين، فكيف نفهم أية "النحل", {إن إبراهيم كان أمّة .. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم}؟.
وأحسن قول المفسرين، أن إبراهيم كان إماماً، بدليل ما ينبني عليها من بعد، بالأمر بالاتباع، فإن كان كذلك، فكيف يكون رسول الله هو الإمام "الأم", ثم يؤمر باتباع إبراهيم الإمام؟.
ويجاب عليها: بأنه يستقيم أن يكون رسول الله متبعاً في حال مخصوص في وقت مخصوص, متبوعاً إماماً في عامة الأحوال على أنه خاتم النبيين، مثله في هذا كمن يتبع إماماً ما، في باب ما، ثم يغدوا بعدها إماماً لإمامه وسائر أقرانه. وهذا ما جرى فعلا, وأكد ما ذهبنا إليه, يوم أم النبي محمد عليه الصلاة والسلام النبيين جميعا وفيهم أبراهيم, فهو بهذا إمام النبيين, وهو بهذا النبي "الأمي"!.
سؤال في محله
ولنا أن نطرح سؤالاً على من أحب أن يشاركنا, فإذا كنا نقرأ {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}. فهل من الممكن أن تكون "خاتم النبيين" بمعنييّها الضد، أي آخر النبيين وأول النبيين، إذ المختوم هو المغلق من أوله وآخره؟.
ولمن نظر في لسان العرب وجد مُسَوغا لما نقول، فالعرب تقول: "ختم الزرع" إذا سقاه أول سقيه، ومحمد عليه الصلاة والسلام صاحب مثل الزرع في القرآن, {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} , فأول سقي الزرع هو الختم، ولم نعلم أن أحدا من النبيين من أولهم الى آخرهم كان خاتماً مختوماً بالنبوة إلا رسول الله محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
وبهذا يمكن لنا أن نفهم ما معنى "محمد"!
فالاسم وإن كان من ظاهر الحمد، إلا انه وجب علينا أن نقرأ الاسم مصاحباً للصفات الثلاث "الرسول النبي الأمّي".
فهو محمد الرسول النبي الأمّي، أول الرسالة وآخرها وخاتمها، فكان في كتاب الأولين "أحمد" الممتلئ حمداً، فلما بعث، فصار أحمد حقيقة في الآخرين، جمع له حمد الأولين والآخرين فصار محمداً!.
ألا ترون الله يبدأ الأولى بالحمد ويختم الآخرة بالحمد {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} ,
فالله يجمع بين الأولى والآخرة بالحمد، {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون}. كأن الحمد عند الله هي تعرفة التمام والاكتمال.
فالحمد في التمام, والتمام في الحمد، فهو محمد الذي أتم الله به الدين وأكمله, ثم بعثه الله ليتمم به محاسن الأخلاق، وآتاه جوامع الكلم, فهذا الذي يجمع له الله الرسالة الأولى والاخرة, ويؤتيه الجوامع, فيتم له ويتم به, إنما هو "محمد".
ولا عجب أن يفتتح الله خمس سور بالحمد, ويذكر محمداً وأحمد في القرآن خمس مرات مثلها, ويتم الاسلام ويكمله بخمس أركان. ثم يعقد له لواء الحمد يوم القيامة.
محمد: المتمِّم المتمَّم، المكمِّل المكمَّل.
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.
اللهم إن أصبنا فبرحمتك, وإن أخطأنا فبجهلنا ونقصنا وضعفنا.
{ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل}.
¥